ترجمة: يوسف حجازي تحرير: علي المخلافي لم تكد تمر ثلاث سنوات على النضال العربي من أجل سيادة الشعوب حتى بدأت وسائل الإعلام تتحدث عن تحول الربيع العربي إلى شتاء عربي. لكن إنغريد تورنر، الباحثة في تاريخ الشعوب بجامعة فيينا، ترى في تعليقها التالي لموقع قنطرة أن الربيع العربي يحتاج إلى الوقت ومازال في بدايته، وأن شبابه سينهضون عاجلًا أم آجلًا من جديد للمطالبة بالعدالة الاجتماعية وحق تقرير المصير. دفن الربيع العربي بات يروق لوسائل الإعلام الغربية، بما فيها صحف فكرية رصينة، باستحضارها "شتاءً عربياً" عبر تعليقات مثل: "لا فرصة للديمقراطية في مصر"، ومثل: "إنها تجربة أخفقت منذ فترة طويلة". إلا أن العملية لا تزال جارية في سوريا ومصر وتونس وليبيا واليمن، ولا يزال هناك من يقاتل ومن يموت، وهناك من يتفاوض أيضًا، ولم يحسم الأمر بعد في أي بلدٍ من بلدان الثورات. لكن ما يصدر عن الأفواه الأوروبية له وقع الشماتة ولسان الحال: "لن تنجحوا على أية حال". لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا لا نمنحهم الوقت؟ ثمة مخاوف في أوروبا من قدوم المزيد من اللاجئين. بطبيعة الحال ستزداد أعدادهم، ولكنها لن تتناقص إلا إذا وجدوا في بلدانهم ظروفًا تجعل معيشتهم جديرةً بالحياة. وعلى المدى المتوسط لن يساعد على ذلك إلا مشاركة مجموع السكان في صنع القرار وتوزيع الثروة الوطنية. يدور حديث عن فشل كل الفاعلين السياسيين. بالطبع ثمة فشل. لكنه فشل للجميع وفي كل أنحاء العالم. فالمتوقع من الأوساط الفكرية والثقافية دعم مشروع الديمقراطية الكبير في العالم العربي ومؤازرته معنوياً على الأقل بدلًا من مجرّد الابتسام بشماته على انتكاسات واردة في كل الأحوال. الديمقراطية…سيرورة أبدية يجري الآن التأكيد على معاداة جماعة الإخوان المسلمين للفكر. ولكن ما هي منزلة بعض الحمقى مقابل 1400 عامٍ من التاريخ الفكري العربي-الإسلامي؟ لم يُمنحوا فرصة التعلّم من الأخطاء. وحيثية ارتكاب الفريق السياسي للإخوان لأخطاء مهنية بالغة لا يعني حتمية فشل الديمقراطية في البلدان العربية أو الإسلامية، ولا يعني على الإطلاق أنَّ الإسلام من الأساس عاجز عن الديمقراطية. لا بدَّ من بذل الجهود حتى يعم الإدراك بأنَّ الديمقراطية ليست حدثًا يجري لمرة واحدة، إنما هي سيرورة دائمة تتطلّب الكدّ والعمل يوميًا، وتتطلب تفاوضًا متواصلاً حتى التوصُّل إلى تسويات. فالثورة الفرنسية بدءًا من عام 1789 تُعتبر عادةً أنها قد ساعدت على انطلاق الديمقراطية الأوروبية من خلال تنويرها الرائد الذي يملك جذوره في العصور القديمة. لكن سكان البلدان الغربية اضطروا للانتظار طويلًا حتى استطاعوا نيل حقوقهم العامة في المشاركة في العمليات السياسية، فقد تبعت الثورة ثورة مضادة وانقلابات رجعية وانتكاسات لا تُعد ولا تحصى، ناهيك عن حربين عالميتين ومعسكرات إبادة وجرائم إبادة جماعية. أحرقت كنائس على النيل مرات عديدة في الأشهر الأخيرة، وجرى مهاجمة البنية التحتية وتخريبها وتدميرها. وفي أوروبا تمّ تحديد المذنبين بسرعة، وجرى إلصاق تدنيس الحرمات والجرائم بمجموعة منتشرة هنا تدعى "الإسلامويون". المتدينون كانوا الفاعلين بلا شك وبدون أي اعتبار لقرينة البراءة. فرّقْ تسُدْ! أما في القاهرة فثمة فرضيات أخرى أيضًا، فهناك شائعات مستمرة تقول بأنَّ العنف لا يثيره متطرفون بدوافع دينية (فقط)، بل أيضًا مجموعات من البلطجية مدفوعة من قبل الحكومة. هذا التقليد موجود منذ عهد مبارك، حيث يجري تكليف بعض الأنشطة الحسّاسة لجهات خارج النظام تتمثّل في رجال أقوياء مأجورين. هؤلاء الرجال الضليعون في الأعمال الحقيرة يتمتعون بخبرة خاصة بأعمال العنف الجنسي. ولطالما تم في السنوات الأخيرة رصد مثل هذه العصابات الإجرامية (البلطجية) لدى سقوط الكثير من الضحايا، في ميدان التحرير وفي ملعب كرة القدم في بورسعيد سنة 2011، ولدى اقتحام مخيم الاحتجاج في منتصف شهر آب/أغسطس في يوم جمعة الغضب الذي تلاه. من الضروري إيضاح ما إذا كان معظم عمليات تدمير الكنائس والمباني الحكومية والعنف ضد الأقباط من أعمال مثيري الشغب المأجورين – وبالتالي من أعمال الجهات الموكِّلة لهم. ونواياهم يمكن التنبؤ بها بسهولة، حيث أن أسلوب – Divide et impera – فرّق تَسُدْ قد أثبت نجاعته منذ العصور القديمة، وذلك من خلال محاولة التفريق بين مختلف مجموعات السكّان والإيقاع بينهم. تتضمن كتب التاريخ الكثير من هذه السيناريوهات. ومن المؤلم أنَّ البشر دائمًا كما يبدو لا يقبلون بالتفاوض باعتباره استراتيجية لحل النزاعات، إلا عندما لا يؤدي إطلاق النار إلى نتيجة مقبولة. يود المرء أن يأمل بألاّ تتكرّر الأحداث إلى ما لا نهاية مع سفك الكثير من الدماء. ولكن يبدو الآن وكأن مصر تعيش ذلك النوع من المراحل التي تأكل الثورة فيها أبناءها. النضال من أجل السيادة الشعبية أين صارت في الواقع الآلاف التي ملأت ميدان التحرير في أوائل سنة 2011؟ بطريقة أو بأخرى اختفى كل أولئك الأشخاص عن الانظار ومن شوارع القاهرة ومن وسائل الإعلام ، اختفى الذين حملوا عبء الآمال الكثيرة والذين جرت تسميتهم بالليبراليين، فمنهم من انتقل إلى طرف آخر، ومنهم من توارى عائدًا إلى الحياة الخاصة. لكنهم عاجلًا أم آجلًا سوف ينهضون من الخفاء وسوف يدفعهم سخطهم للمطالبة مجددًا بالخبز وبالمشاركة في تقرير المصير، وهذا يعني السيادة الشعبية، فهي وحدها تشكل ضمان المشاركة السياسية والاقتصادية للجميع. لم تنشأ ديمقراطيات مستقرة في كثير من الدول الغربية إلا بعد سنة 1945. أي بعد قرن ونصف القرن على اندلاع الثورة الفرنسية، وما زالت هناك ضرورة لجهود يومية، وما زالت الشعبوية والمصالح الجزئية والجماعات اليمينية المتطرفة تهدد إنجازات المشاركة ودولة الرفاه الاجتماعي وحقوق الإنسان. بطبيعة الحال ربما تكون التطورات في شمال أفريقيا والشرق الأوسط مختلفة تمامًا زمنيًا وبنيويًا ويكون مسارها مختلفًا عن السيرورات المعروفة حتى الآن للديمقراطية. إلا أنَّ النضال العربي من أجل السيادة الشعبية لم يبلغ من العمر ثلاث سنوات بعد. انطلقت الشرارة في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 عندما قام بائع الخضار محمد بوعزيزي بإضرام النار في نفسه، وأشعل الثورات العربية. وأصبح بوعزيزي مباشرة بطلًا تجاوز الحدود، بحيث صار حتى كل تلميذ عربي يعرف اسمه. الربيع العربي يحتاج إلى الوقت.