مصطفى عبادة في عشرين فصلا، و175 صفحة من القطع المتوسط، لخص سعد القرش فشل الإخوان، لخص سنتهم التي هي الجملة الاعتراضية في تاريخ الأوطان، في عشرين فصلا تشبه الرواية القصيرة. أمسك القرش في كتاب «سنة أولى إخوان.. وقائع وشهادة على 369 يوما قبل اختفاء التنظيم، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بروح الإرهابي، في نفسية الإخواني، روح الحنين إلى التنظيم، إلى دفء الجماعة وصفائها الذي يواجه عكارة الفكرة الوطنية. «الإسلام وطن» جلاها سعد، وهو مشروع مجاهد إخواني قديم، «حطم صنما» وأدمن مجلة «الدعوة» ويحتفظ بأعدادها، يا للذاكرة، يا للحدس: «قدرت أنني سأخطو نحو الإسلام إذا حطمت رأس تمثال من الجبس، في جدار يطل على فناء المدرسة الإعدادية، بجوار باب حجرة الناظر، طلبت إلى زميلي محمد الغمري أن يساعدني، وأعطاني «كوريك» صغيرا… تسلقنا السور في يوم جمعة، كنا وحدنا في مواجهة رأس «صنم» عاجز، تفتت وتناثر قطعا، وتسلقنا السور عائدين، وقد استبدلت كثيرا من الزهو بالخوف، لقد حطمت صنما»؛ هذه النفسية التي تمتلك اليقين العقلي، والزهو الوجداني، خبرها سعد، وعاشها، وهو حين يكتب عنها يفهمها، وليس من جرب كمن قرأ. هذا الزهو نفسه، يشعره فرد «الجماعة» وهو يحطم قسم شرطة، وهو يحرق مدرعة، وهو يهاجم جنود الجيش، يشعره وهو يقتل لأنه فَنِىَ في فكرة أعلى، سيظل سعد يبحث نفسيا وراء هذه الفكرة. بهاجس الروائي، الذي لا يريد لتفصيلة في الشخصية أن تفلت من السرد، يريد للسرد أن يكتمل فنيا، ليؤدي إلى معنى فكري؛ فجماليات الفن لا تسبح في الفراغ، لا يريد سعد أن يخبرك أن الإخواني يحتاج إلى طبيب «يصنفر» روحه، ويذهب وراء المخبوء في وجدانه، فربما اكتشف فنانا نائما يحاول أن يعبر عن نفسه، أغلب الذين خرجوا على هذه الجماعات أصبحوا كُتَّاب رواية، ومفكرين ناقدين للدين نفسه، فربما اكتشف الطبيب موسيقيا، كل الذين خرجوا على هذه الجماعات، ليس من بينهم من يعزف الموسيقى، باستثناء «مختار نوح»؛ لأن وجدانه لم يعرفها، فيما تراكم الخبرات، والحرمانات، والقيود والسمع والطاعة، رتب في نفوسهم ملايين الحكايات، أحدهم كان يستثار جنسيا من فكرة «الاستحمام» من سريان ماء «الدش» على جسده، هذه اللمحة التي تستعصى على إدراك فرويد ويونج وكل تلاميذهما منذ اختراع علم النفس حتى هذه اللحظة. ما علاقة ذلك بكتاب سعد؟ تلك هي روح كتاب سعد، الذي جعل من ذاته صورة «تصويب»؛ فتكلم في الفصل الأول، الذي ليس مقدمة، عن نفسه عندما كان إخوانيا، وكيف أن الفن والقراءة والرواية أسهمت في إنقاذ روحه من الظلمة، ذلك الفن الذي لم يمس أرواح البائسين، فتخَّيل معي لو أن أيا من أعضاء مكتب الإرشاد قرأ رواية، أو تفاعل مع مقطوعة موسيقية، سعد القرش فعل ذلك ونجا، وجاء كتابه صورة صادقة عن نفسه، وعن وطنه، وعن ظرفه التاريخي، وعن رفاق مسيرة، دون إدانة، دون حكم قيمة، دون تخوين، دون طموح للفضيحة، التي هي سبب للشهرة والمال. جاء كتاب سعد رواية صغيرة، تذهب إلى التاريخ، وتعود منه، تتحرك على مساحة رقعة شاسعة، بدايتها عام 1928، عام تأسيس الفكرة الشيطانية على يد حسن البنا، رواية على شكل كتاب، تتحرك أفقيا لترصد الحدث وتداعياته، ورأسيا لتنير بالقديم على الحدث الجديد، ليجعلك تفهم، كيف فرط مرسي بسهولة في سيناء من أجل عيون حماس، وفي «حلايب وشلاتين» للصديق السوداني، وكيف دافعت جوقة الإخوان عن ذلك؛ لأن سيد قطب قال لهم منذ نصف قرن: «وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض، إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هى في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق، إنها ليست معركة سياسية ولا اقتصادية.. لو كانت شيئا من هذا لسهل وقفها، وسهل حل إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة، إما كفر وإما إيمان، إما جاهلية وإما إسلام»؛ أي باختصار، كما يلمح الكتاب من خلال الاستشهادات الكثيرة من مقولات أعلام الإخوان قديما، وصولا إلى مرحلة «الطظ»، دون أن يصرح، أي إسلامهم وفقههم ضد علمنا وفنوننا، وحضارتنا، وضد الاستنساخ ونقل الأعضاء، والدولة الوطنية، وضد فصل الأمراض الوراثية عن الأجنة، وضد الموبايل، والعلاج الحديث، هم في مقابل كل شيء وأي شيء. طريقة البنية الدائرية؛ هو الوصف التفصيلي، الفني لكتاب سعد هذا، «سنة أولى إخوان» على طريقة صناعة الروايات، فإذا كان قد بدأ بنفسه في «فتى يبحث عن يقين»، ثم تلاه ب «الطريق إلى 30 يونيو»، فإنها وغيرها في الحقيقة عناوين خادعة، لأن طريقة الاستقصاء فيها تبحر في عشرات الكتب وعشرات المطبوعات، ولقاء الشخصيات لقاء عينيا، عاشه الكاتب بنفسه، سواء مع محمد الغزالي، أو مع أنور الجندي، وغيرهم من الشخصيات اليمينية واليسارية لاحقا بعد أن اهتدى، ولا أظنه تخلص من هذا الحنين المخبوء، إلا حينما كتب هذا الكتاب، وليعذر سعد قسوتي، كما أعذر أنا وهو فرد الجماعة الذي يخاف الاعتراف بفشلها وتخبطها، لأنه حينها كالطفل الذي فقد أباه، أو فقده أبوه في «سوق التلات». في هذا الكتاب، كما في «الثورة الآن» لسعد القرش نفسه، هذا الكتاب عن 30 يونيو، و«الثورة الآن» عن ثورة 25 يناير، أقول في هذا الكتاب، ومواقف سعد القرش كلها، روح مثالية، جعلت حتى من رواياته شيئا عذبا، شيئا حميميا، يتجاوز الحدث إلى روح الدافع، إلى محبة الدافع، وتقديره، وتحكمه في رد الفعل، المثالية جعلت من سعد القرش مصرا على فكرة «الشهادة»: أي أن يجعل من نفسه شاهدا على ما يرى، ويروى الأشياء بروح الشاهد، الذي أقسم على قول الحق، حتى لو أدى ذلك إلى إعدام المتهم، وحيازة سعد لكراهية معاصريه، لا يهم، سيجعل من نفسه شخصية في إحدى رواياته، ويتحدى الجميع، سيقول شهادته لنفسه، وهي شهادة أقرب إلى مفهوم «الاعتراف» في الديانة المسيحية، أبعد من ذلك إلى روح الفلاح الفصيح، أي المصري وهو يقف بين يدي إلهه: «لم ألوث النهر».. ولم .. ولم. فكرة الشهادة تجعل من كتابيْ سعد عن ثورة المصريين منذ يناير 2011 إلى الآن، قابلين للبقاء؛ نجا سعد بحيلة الروائي، من فكرة التوثيق، وانتقل إلى مقعد الشاهد، وأزعم أنني قرأت تسعين في المائة من الكتب التي ألفت عن الثورة والثوار، وفي بعضها يصيبنى إحساس القيء منذ الصفحات الأولى، من مشاعر تضخيم الذات، وعبقرية الدور، حتى الكتاب التافه الذي كتبه «فتى» الثورة، هو فقاعة عمرها عمر عطسة، حيلة الشاهد أنقذت سعد، فلم يتحدث عن نفسه، غمطها حقها، فيما أعطى الآخرين حقهم كاملا غير منقوص: «وإنما توفون أجوركم يوم القيامة». عشرون فصلا مركزا، تركيزا يناسب «الشهادة الحية»؛ فصل «فتى يبحث عن يقين» كان أكثرها حرارة لارتباطه بالذات وقربه الحميم منها، ورصد تحولاتها، من مشروع متطرف صغير، إلى هائم في دنيا الأدب، ذات خرجت من ظلام دامس كلحى الجماعة وقرين أفكارها، إلى ذات تنظر حولها بدهشة، من عالم رجال الدين ومقولاتهم المصمتة من اليقين، إلى عالم رجال يشكون في كل شيء، عمرهم يذهب وينقضى بحثا عن نقطة يقين لا تأتي وهي بين أيديهم، قابعة في «الإنسان الفرد» ورغباته وهمومه وإيمانه وكفره. كان يمكن لهذا الفصل أن يكون كتابا، أن يكون الشهادة النهائية، القوس الأخير الذي يغلق به سعد أفق هذا الروح الهائم في داخله، أن يتذكر ماضيه بغضب، وأن يرصد حاضره بغضب أشد، علائق الشهادة ومتلازماتها في الكتابة: المشاركة والرؤية والخبرة في الحدث، وبالحدث حرمت سعدا من النظر بعمق إلى تفاصيل فكرية كان يمكن تلمسها، الخراب لم يبدأ في 1928، لم يبدأ فقط مع حسن البنا، هو التقط خيطا من الدين، يُسقط بمقتضاه «صلاة الجمعة» فلا جمعة دون خلافة كما قال سيد قطب، الخراب يا سعد بدأ مع مقتل عثمان، مع خلافة حافظت لأتباعها على كرامتهم، وأهدرت كرامة الدول المفتوحة، مع تحول الإسلام إلى إمبراطورية سياسية، تحتل بلدانا أخرى، وتسبي نساءها، وتأخذ خراجها من أجل أن تقول لا إله إلا الله، لا، من أجل أن تقول: محمد رسول الله. الخراب بدأ مع عمرو بن العاص، مع مقتل عمرو بن ربيعة بن الأسود، الذي قال له نائب يزيد بن معاوية: «بايعني، قال: نعم أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله، فقال نائب يزيد: لا، بل بايعني على أنكم فيء لأمير المؤمنين يفعل في أموالكم وذراريكم ما يشاء»، الخراب أتى مع الحجاج بن يوسف وأبي العباسي السفاح، تاريخ خلافة من الدم، تاريخ أدبيات محنة وفقهها لم يكن الإخوان يعرفون غيرها. فمن قبيل المثالية، ومن قبيل الشهادة، والشاهد مسؤول، يقول سعد عن كتابه: «هذا كتاب أحمله بيميني وأفخر، سيرة ذاتية موضوعية، يشفى صدور رافضي الإخوان، ويذهب غيظ قلوبهم»: فالإخوان يستشهدون في مواجهتنا أيضا بقوله تعالى: «ويشفى صدور قوم مؤمنين»، ويقول سعد: «ويضع الإخوان في مواجهة الحقيقة، وإن أنكروا نور الله وحاولوا إطفاءه، كمن أضله الله على علم، كتاب لا يخاطب اللحظة الملتبسة حيث يتكاثف ضباب ودخان قنابل ويتوارى اليقين..» ألم أقل لك إن «سعدا» مأخوذ بفكرة الشاهد، حتى ولو ظلم نفسه، رافضو الإخوان شفيت قلوبهم، ولا شباب الإخوان الذين تستهدفهم رضوا أو سيرضون عنا أوعن غيرهم أو عن أي شيء، لكن كتابك يا سعد سيظل الحجر الذي يقلق مؤخرات الكهنة.