أضحكتني مليَّاً، صباحيَّة عيد الأضحى المبارك، نكتة مصوَّرة بثَّتها بعض القنوات الفضائيَّة على سبيل المعايدة المستطرفة، حيث دلف، بغتة، جزار بسكين، وساطور، وشارب كثٍّ، ووجه مكفهر، إلى حظيرة الخراف؛ فما أن رأته حتَّى فزعت، وهاجت، وماجت، ثمَّ ما لبثت أن انقلبت تتقافز، وتنقنق، فاردة أجنحة متخيَّلة، ونافشة ريشاً متوهَّماً، محاوِلة خداعه بأنها فراخ لا خراف، حتَّى لقد وضع أحدها بيضة حقيقيَّة، ولكن.. هيهات! تلك المعايدة خفيفة الظلِّ استدعت إلى ذاكرتي، على الفور، نكتة تُروى عن ديكتاتور شهير من مدخِّني الغليون، فقد حدث ذات يوم، عقب اجتماع صباحي كان منعقداً بمكتبه لرهط من معاونيه، أن طفق يبحث عن غليونه وسط الإضبارات والملفَّات، على منضدته، وعلى طاولة الاجتماعات الممتدَّة أمامه، لكن بلا جدوى، فهاتف، كعادته، مدير مخابراته الذي لا يفعل شيئاً من دونه، ويعدُّه ذراعه اليمنى، بسبب طاعته العمياء، وولائه الشَّديد، طالباً منه البحث عن الغليون، فلربَّما كان أحدهم قد أخذه معه، عن طريق الخطأ، بين أوراقه! لكن، عند منتصف النهار، عثر الديكتاتور على الغليون، فجأة، على طاولة جانبيَّة صغيرة، وبعد أن أشعله، واسترخى ينفث الدُّخان، تذكَّر مدير مخابراته، فاتَّصل يشكره، ويعفيه من المهمَّة: «خلاص.. لا داعي لأن تزعج نفسك، لقد وجدته»! لكن سرعان ما جاء ردُّ المدير الخدوم مندهشاً من الجانب الآخر: «مستحيل يا سيِّدي.. فقد اعترف خمسة، حتَّى الآن، بأنهم أخذوه»! وقد خطرت لي، مع النكتة أيضاً، بعض استنتاجات عبد الرَّحمن الكواكبي، أشهر من بحث في «طبائع الاستبداد» في التُّراث العربي المعاصر، حيث يعزو بعض الأسباب التي تمكِّن لهذه الطبائع في علاقة المستبد برعيَّته إلى الجَّهل الذي يولد الخوف، فالمستبد، في رأيه، يعلم، تماماً، أن الاستعباد لا يكون إلّا حيث يكون الجَّهل، «فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفَّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجَّهل، ولو كان وحشاً، لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل». ويخلص الكواكبي إلى أن «العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجَّهل، فإذا ارتفع الجَّهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبدُّ، رغم طبعه، إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذَّذ بالتَّحابب». ورغم أن الكواكبي لا يذهب إلى ما وراء «الجَّهل» ليكشف عن سببه، مثلما كشف عن سبب «الخوف»، إلّا أنه، مع ذلك، بل ربَّما لذلك، يلاحظ، في مستوى آخر من مبحثه، «أن خوف المستبد من نقمة رعيَّته أكثر من خوفهم من بأسه»! وفي تفسيره للأمر، على غرابته الظاهريَّة، يستدير هذا المفكر عائداً، مجدَّداً، إلى مقولة «العلم والجَّهل»، ليؤكد أن مصدر «خوف» المستبد هو «العلم»، هذه المرَّة، على العكس من مصدر «خوف» الرَّعيَّة الذي هو «الجَّهل»؛ فعلى حين يخاف هو من انتقام يعلم أنه حقيق، يخافون هم من تخاذل لا يدركونه، إنَّما يتوهَّمونه توهُّماً! و«الحرية»، بالمقابل، هي نقيض الاستبداد، أو، بالحري، نقيض المناخ الذي يخلقه الاستبداد، فإضافة إلى كونها المفهوم الأساسي الذي يتحكَّم بوعي الإنسان، ويوجِّه خياراته، ويحتل، لهذا، مركز الصدارة في فكر الحداثة الغربي البرجوازي المعاصر، فإن الخبرة الاجتماعيَّة، من زاوية نظر الكثير من مفكري هذه الحداثة الغربيين، تلعب الدَّور الأكبر في تخليق هذا المفهوم، وتحديده، بارتباط مع جملة مفاهيم معياريَّة أخرى، كالعدل والمساواة، على سبيل المثال. هنا، بالتَّحديد، يقع الصدام المدوِّي بين مفهوم الحريَّة وبين هذه المفاهيم المعياريَّة، فالكفاح من أجل الحريَّة لا ينفصل عن الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيَّة، وإلّا صار محض ترتيبات شكلانيَّة لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وهو كفاح تاريخي ضدَّ كلِّ أشكال الارتهانات التي تحدُّ من طموحات الفرد، وتطلعات الجَّماعة، والمآلات المستقبليَّة للنَّوع الإنساني بأسره، دَعْ، إلى ذلك، أن فكر الحداثة الغربي مثقل، أصلاً، وفي الوقت نفسه، بمفارقات أساسيَّة، أبرزها، كما يلاحظ بعض نقَّاده، أنه، من جهة أولى، ما ينفكُّ يراوح بين التأكيد النظري على استحقاق الفرد للحريَّة، وبين النُّزوع العملي لدى الدِّيمقراطيَّات الغربيَّة إلى الهيمنة في حقل العلاقات الدَّوليَّة، سواء بأشكال الاستعمار الكلاسيكي، أو الاستعمار الجَّديد؛ كما أن هذا الفكر، من جهة أخرى، يقدِّم مفهومين متناقضين للحريَّة: بريطاني يعتبرها تفلتاً من القيود الاجتماعيَّة كافَّة، وقارِّي يؤكد عليها كالتزام، فردي ومجتمعي، بالواجب. من ثمَّ فإن الحريَّة في الفكر الحداثي الغربي لا تمثِّل، فقط، إشكاليَّة من إشكاليَّاته الفلسفيَّة، بل هي محور من محاور السِّياسة العمليَّة التي تعكس مستويات وصور الصِّراع الذي يكاد لا يهدأ بين مختلف الكتل الاجتماعيَّة في بلدان الغرب. من جهته ساد الفكر الاشتراكي الستاليني نمط التَّجربة التي كانت تُعرف، ردحاً من الزمن، بالمعسكر الشَّرقي، ولمفهوم «الحريَّة» في هذا الفكر دلالة فلسفيَّة في معنى «إدراك الضَّرورة والقدرة على الفعل بناءً على هذا الإدراك». لكن هذا الأطروحة النظريَّة، الصَّحيحة تماماً حول «الحريَّة»، لم تفلح، أيضاً، في التَّحوُّل إلى سياسة عمليَّة تقدِّم النَّموذج الملهم المأمول الذي كان ينبغي أن يحتذى به على صعيد «الدِّيمقراطيَّة»، باعتباره التَّطبيق السِّياسي لمفهوم «الحريَّة» الفلسفي. فعلى الرُّغم من النَّجاحات غير المنكورة التي حقَّقتها تلك التَّجربة، بوجه عام، في ما يتَّصل بمعيشة الشَّعب، والمكاسب الاقتصاديَّة التي وفَّرتها له، على مستوى العمل، والمداخيل، وخدمات الصحَّة، والتَّعليم، والإسكان، وما إلى ذلك، إلّا أنها لم تستطع أن تحقِّق عشر معشار هذه النَّجاحات على مستوى حريَّات وحقوق الأفراد في التَّجمع، والتَّنظيم، والتَّعبير، والضمير، والاعتقاد، والصَّحافة، والإعلام، والتنقُّل، وتلقي المعلومات، والمشاركة السِّياسيَّة، وغيرها. كانت الأفواه مكمَّمة، والأيدي مغلولة، والسِّتار الحديدي قائماً، وكان ذلك، لا انتصار المعسكر الغربي كما يروج خطأ، هو السَّبب الحقيقي وراء انهيار تلك التَّجربة التَّاريخيَّة بالتَّلازم مع انهيار حائط برلين مطلع تسعينات القرن المنصرم. إذاً، لقد توفُّرت المكاسب الماديَّة لعموم النَّاس، في المعسكر الشَّرقي، إلى حدٍّ كبير، لكن غياب الحريَّات والحقوق السِّياسيَّة، في الممارسة الفعليَّة، تسبَّب في انهيار التَّجربة، وفي المعسكر الغربي تتوفَّر الحريَّات والحقوق السِّياسيَّة، في الممارسة الشَّكليَّة، إلى حدٍّ كبير، لكن غياب المكاسب الماديَّة لعموم النَّاس يتهدَّد هذه التَّجربة، أيضاً، بالانهيار، طال الزَّمن أم قصُر! فقط، حين يشعر النَّاس بأنهم أعزة في المستويين المادِّي والمعنوي، يتحقَّق، عندئذٍ، استقرار التَّجربة الاقتصاديَّة السِّياسيَّة الاجتماعيَّة؛ وكلُّ عام وأنتم بخير.