في التاريخ الإنساني بشارات كثيرةٌ أنقذت الأمم من كهوف القسوة، والظلام والجهل، فيوُلد الفارسُ النبيل المُخلص الذي ينبلج منه النور، ويولد معه الفجر الأخضر والضمير الحر، غير أن ولادة الفوارس السماوية تبدو مختلفة، حيث تُولد في لحظاتٍ هادئةٍ مشبعةٍ بالنور، وأحياناً وحيدةً، مرةً تكون تحت جذع نخلة رطبةٍ جنيةٍ، ومرةً في ركنٍ هادىءٍ من الشعاب المظلمة في أحضان آمنة، لتكون الإنسانية على موعدٍ مع أحداثٍ عظيمة لا تنقطع بشارتها عبر التاريخ، لينتظر ذكرى مولدها دموع السائلين، ونجوى المبتهلين، وهتافات المؤمنين، التي أسمعها الآن تردد أبيات أحمد شوقي في هذا الجانب قائلة: بِكَ بَشَّرَ الله السماءَ فَزينّت ** وَتضوعت مَسكاً بِكَ الغبراءُ وبَدا مُحياكَ الذي قسماتُه ** حَقٌ وغُرتُه هُدىً وحياءُ وعليه من نور النبوةَ رَونَقٌ ** ومن الخليلَ وهَديهِ سيماءُ أثنى المسيحُ عليه خَلَفَ سمائه ** وتهلَّلت واهتزت العذراءُ يومٌ يَتيه على الزمان صباحُهُ ** ومساؤه بمحمَّدٍ وَضاءُ فالتفت أسمع على الجانب الآخر هتافات إيمانية أخرى للبابا شنودة تقول: لَستَ في أرضٍ وُلِدتَ ** قد وُلِدتَ في السماء أنتَ من روحٍ طَهورٍ ** لَستَ من طينٍ وماء أنتَ حَقٌ أنتَ قدسٌ ** أنتَ نورٌ وضياء مَنْ بناك؟ هل بناك ** غير ربِّ الشهداء مِنْ حماك؟ هل حماك ** غير أقنوم الفداء يحتفل العالم هذه الأيام معاً في ظاهرة يراها الفلكيون لم تحدث من 457 عاما، حيث يحتفل المسلمون بالمولد النبوي المحمدي الشريف، ويحتفل المسيحيون بعيد الميلاد المجيد. معلومٌ أن المولد النبوي 12 ربيع الأول وإنه سيوافق 24 ديسمبر/كانون الأول في معظم أنحاء العالم إلا أن المناطق التي لم يكن فيها الهلال مرئياً ستحتفل به 25 من ديسمبر/كانون الأول ليتزامن ذلك مع احتفال الغرب بعيد الميلاد المجيد، ميلادان جديدان ربما نحتاج إليهما الآن أكثر من أي وقت مضى. كما يسجل الفلكيون ظاهرتين لم تحدثا من سنوات طويلة أولهما: أن مولد النبوي الشريف أتى هذا العام مرتين في إصرار سماوي عظيم، وفي ظاهرة لم تحدث من 33 عاماً. أما ثانيهما: أن بدر الكريسماس (القمر البارد الذي يأتي بعد الانقلاب الشتوي حيث يكون النهار فيه أقصر من الليل) يأتي مكتملاً هذا العام في ظاهرة لم تحدث من 38 عاماً. بعيداً عن التحليل الفلكي لتلك الظواهر أرى الموضوع من زاوية أخرى أراها دعوة سماوية مكتملةً وملحةٍ ومصرةٍ على ضرورة التعايش السلمي مع الآخر، ونبذ الصراعات الدينية والعقائدية، خاصةً وأن الاختلاف سنةٌ إنسانية وجودية، المسؤول الوحيد عنها هو الله – عز و جل – {ولو شِاء رَبُكَ لَآمن مَنْ في الأرضِ كلهم جميعاً، أفأنتَ تُكره الناسَ حتى يكونوا مؤمنين}. {وَلا يزالون مُختلفين إلا مَن رَحِم ربٌّك لِذلك خلقهم}. الاختلاف أبداً لا يعني الخلاف، وليس مدعاة للصراعات المفتوحة، وإنما للتفاعل الاجتماعي والتداخل والتعارف. فَمن قال إن البشرية نتاج ثقافة واحدة أو دين واحد؟ ولماذا تُطل من رؤوسنا العصبية والطائفية، رغم أن الله تعالى الذي نحن له عابدون ليس – عز وجل – متعصباً ولا عصبياً؟ ماذا لو أعدنا قراءة التاريخ، ماذا لو استقرأنا الأحداث مجدداً؟ حتما سنجدها ترسم لنا خارطة الطريق للتعايش السلمي والتبادل المعرفي والثقافي، ألم تكن الهجرة للحبشة النصرانية قبل المدينة دليلاً على هذا التعايش؟ وغيرها من الأحداث، بل أليس زحف المهاجرين اليوم للبلاد الأوربية دليلاً على ما أقول؟ علينا جميعاً اليوم قبل أي وقت مضى إستئصال الأورام الخبيثة التي تُطل من رؤوسنا، وتفسد علينا الحياة والتعايش حتى مع أنفسنا، إن ما وصل إليه عالمنا العربي اليوم لا تبرير له سوى تلك الألغام الديموغرافية المتجزره فيه، وتلك القنابل العرقية والمذهبية والدينية. نحن بحاجة ماسة لنشر ثقافة التسامح، والبعد عن رفع الأصوات في المنابر أو قرع الأجراس بعصبية قاتلة، نحتاج أكثر آن نرى الدين في وعاء ثقافي ونراه ميراثاً إنسانياً، علينا أن ندرس القادة والزعماء بل أحياناً الأنبياء – عليهم السلام – في إطارٍ من الوعي الثقافي وبمنهج تاريخي منطقي فلسفي، مع تفعيل الحانب الأدبي في سيرهم حتى تتجلى لنا الحقائق واضحة دون أن يشوبها أيه شائبة، بل سنعالج الأشكالية المتوترة الآن إشكالية الآخر التي باتت أزمة معقدة. كثيرٌ ممن تناولوا الأمور بمنطقٍ تاريخي وفلسفي كانوا منصفين في أحكامهم دون إساءة، أذكر هنا وصف الأديب والمفكر برناردوشو للنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: هذا النبي وضع دينه موضع الاحترام، والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالد خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين عن بينة، ويجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا). فلماذا نرى الدين من خلال اللحى الكاذبة أحيانا، فلم لا تراه في إطارٍ من المنطق والفلسفة، بل والفن. وأتساءل من المسؤول عن تلك الرسومات المسيئة؟ وقبل أن تجيب، أو أجيب أنا سأكتفي برصد صورة أخرى ربما تسهل علينا جميعا الإجابة. صمم الفنان أدولف الكسندر وايتمان جدارية من الرسم المنحوت عام 1935 احتوت على تصويرات لأشخاصٍ متجاورين بينهم محمد – عليه الصلاة والسلام – يحمل القرآن، وأسفل الجدارية اعتراف من الهيئة العليا للمحكمة الدستورية الأميركية، (حينما كان تشالز هيوزر رئيساً لها) يقول فيها إن محمدا أعظم المُشرعين في العالم، وأن القرآن يوفر المصدر الأساسي للشريعة فهل باتت الإجابة واضحة؟ وهل أدركنا أن الجهل والعصبية فينا هي المتآمرة الوحيدة علينا؟ إن التآلف والانسجام الفكري والثقافي بيننا هو القوة الوحيدة القادرة على سد أبواب الجحيم الذي نعيش فيه، كما قالت ترنيمة قداسة البابا شنودة الثالث، والتي أحب قراءتها: هو صوتٌ ظل يدوي ** دائماً في أُذنيك يشعلُ القوةَ فيكَ ** حين قال الله عنك إن أبواب الجحيم ** سوف لا تقوى عليك فالحمد لله في الأعالي، والسلام على من اتبع الهدى، وكل عام ونحن بخير.