محمد وقيف «لماذا يكرهوننا؟»، هذا هو السؤال الذين كثيراً ما طرح في الغرب عقب كل هجوم إرهابي كبير يهز مدينة أو عاصمة غربية خلال العقدين الأخيرين. فقد تصدر غلاف مجلة «نيوزويك» بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2011 في الولاياتالمتحدة الأميركية، وظهر مرة أخرى عقب بروز تنظيم «داعش» الإرهابي، وطُرح خلال برنامج خاص على قناة «سي إن إن» العام الماضي. كما عنونت به صحيفة «بوليتكو» مقالاً لها عقب هجوم بروكسيل في مارس 2016. ولئن كان البعض يرى أن السؤال قد أجيب عنه في شهر يوليو من العام الماضي، عندما نشرت مجلة «دابق»، التي يصدرها تنظيم «داعش»، مقالاً بعنوان «لماذا نحاربكم ولماذا نكرهكم؟»، فإن السؤال مازال قائماً وملحاً، ولعل هجمات لندن الأخيرة تحافظ على راهنينته مجدداً! أحدث محاولة للإجابة على هذا السؤال هي كتاب «قيل لي أن آتي لوحدي»، لمؤلفته الكاتبة والصحفية الألمانية سعاد ميخنت. ففي أواخر عام 2012، التقت «ميخنت» مع «مورين فانينغ»، وهي أرملة إطفائي قُتل في الحادي عشر من سبتمبر، وسألتها على هيئة شكل من أشكال السؤال المعتادة، فكان أن أجابتها ميخنت جواباً مؤداه أن السياسة الخارجية الأميركية لا تحظى بشعبية في العالم العربي؛ لكن كتابها هذا هو بمثابة اعتراف ضمني بقصور جوابها الأول، ومحاولةٌ لتقديم جواب مقنع لفانينغ وغيرها ممن يثيرون سؤالاً مشابها أو على ذات الشاكلة، بعد أكثر من 15 عاماً على ذلك الهجوم. والواقع أنه يصعب تخيل كاتب أو كاتبة أكثر أهلية لاقتراح أجوبة ممكنة على هذا السؤال من ميخنت نفسها، والتي يبدو أن خلفيتها الثقافية، ومسيرتها المهنية، ومميزات شخصيتها.. تضافرت جميعاً لتجعل منها الشخص المناسب للنهوض بهذه المهمة. ذلك أنها، أولا وقبل كل شيء، مراسلة صحفية مشهود لها بالشجاعة والذكاء والاجتهاد. وإضافة إلى ذلك، فهي امرأة مسلمة مطلعة على الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية في العالم العربي. ثم إنها أيضاً ألمانية المولد والجنسية، وابنة لأب مغربي سني وأم تركية شيعية. وعلاوة على كل ذلك، فإنها تتحدث الإنجليزية والألمانية والفرنسية والعربية. الكتاب يبدأ بهذا المشهد الذي يعكس بشكل جيد الانقسام الأيديولوجي الذي سترسمه ميخنت عبر أكثر من 300 صفحة. إنها في العاصمة التركية أنقرة عام 2014، حيث تسعى لإجراء مقابلة مع مسؤول في التنظيم الذي يدعى «داعش». إنها تعمل لحساب صحيفة «واشنطن بوست»؛ والرجل الذي ستلتقيه شاب في العشرينيات من عمره، يرتدي قميص «بولو» وسروال «كارغو» ويدعى «أبو يوسف»، وهو مهندس عمليات الاختطاف والتعذيب في التنظيم. وعلى نحو مثير للذهول، تبادره ميخنت بسؤال مباشر وصريح خلال لقائهما الأول: تقولون إنكم ضد قتل الأبرياء، فلماذا تقتل ومنظمتُك الأشخاصَ الأبرياء؟ غير أنه في أثناء هذا الحوار، سرعان ما وقفت ميخنت على كل أوجه الشبه المزعجة بينهما؛ إذ أن كليهما متعلمان، وكليهما متحدثان جيدان، وكليهما يعرفان الطرق والأساليب الغربية ومعتادان عليها. تقول ميخنت في هذا الصدد: «من بعض النواحي، ذكّرني بشقيقي الأصغر، وانتابني شعور الأخت بالمسؤولية عن حماية أخيها». ثم تستدرك: «لكني كنت أدرك أن الأوان قد فات». ذلك أن «أبا يوسف» كان قد أصبح متشدداً منذ وقت طويل وكرّس حياته لتأويل خاص وغريب جداً وعنيف حول مفهوم الجهاد. وتقول ميخنت: «هذا الشاب كان يمكن أن يكون شخصاً مختلفاً، وكان يمكن أن تكون له حياة أخرى غير هذه». وعبر صفحات الكتاب، وبينما تأخذها مهامها الصحفية من باكستان السنية إلى إيران الشيعية، إلى بعض أعنف مناطق شمال أفريقيا، تواجه ميخنت هذا الوضع الصعب مع العشرات من الشباب المسلم الذين تلتقيهم من كل مشارب الحياة: فبغض النظر عن البلد الذي يعيشون فيه والتظلمات السياسية أو الدينية الخاصة لذلك البلد، فإنهم يجسّدون الغضب الذي يتجاوز كل معايير العقل والواقع والمنطق: «إننا لا نفكر كمغاربة، بل نفكر كمسلمين»، هكذا قالت لها مجموعة من الطلبة. الكتاب يعيد سرد مغامرات ميخنت الكثيرة على مر السنين، طارحاً أسئلة خطيرة في أماكن خطيرة، لحساب «واشنطن بوست» أو «نيويورك تايمز»؛ لكن الخط الناظم لكل قصصها الخبرية هو ذاك الانقسام المركزي: فهؤلاء الأشخاص كان يمكن أن تكون لهم حيوات مختلفة؛ لكن شيئاً ما، أو مجموعة من العوامل، وضعتهم على طريق مختلف. أحد أولئك الأشخاص الذين سلكوا ذلك الطريق المختلف هو «جون الجهادي»، منفذ الإعدامات المقنّع في «داعش»، الذي ذاع صيته بعد نشر مقطع فيديو على شبكة الإنترنت يظهر فيه وهو يقطع رأس الصحفي الأميركي جيمس فولي، والذي كان أول ما لفت انتباه الجمهور الغربي الأوسع إلى «داعش». ومن خلال الحدس والتذكر والنبش وتسخير مصادرها، تكشف ميخنت هوية «جون الجهادي» – واسمه الحقيقي محمد اموازي- وجذوره في مدينته في لندن، حيث كان مستاءً ومحبطاً مما كان يعتبره نبذاً وإجحافاً غربيين. ميخنت ترسم بورتريهات ل«جهاديين» آخرين اهتمت بهم خلال مسيرتها المهنية، مثل مغني الراب «ديزو دوغ» (واسمه الحقيقي دنيس كاسبرت)، إلى شابة في الثامنة عشرة اعتنقت الإسلام حديثاً، وطُلِّقت من زوجها الأول، وهو حديث العهد بالإسلام أيضاً، حتى تجد «رجلاً حقيقياً» يأخذها للعيش في دولة إسلامية، بعيداً عن ألمانيا التي «لم تعد تحتمل». لكن البورتريهات التي ترسمها لا تقتصر على شخصيات جهادية فحسب. فهذا خالد المصري، وهو ألماني من أصل لبناني، يحمل الاسم نفسه الذي يحمله عميل ل«القاعدة»، اتصل بها ليخبرها بأن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ال«سي آي إيه» اختطفته وعذّبته على مدى عدة أشهر في عام 2004. وقد بدت الأدلة التي أدلى بها قوية، كما أن رد الفعل الرسمي للحكومة الأميركية المتهرب، بدا أنه يزكّي ادعاءاته ويضفي عليها المصداقية. هذه البورتريهات لوحدها تجعل من كتاب ميخنت كتاباً قيّماً من دون شك، لكن ماذا عن السؤال المركزي؟ فالكراهية مازالت تمثل لغزاً إلى حد كبير. ومثلما تشير ميخنت إلى ذلك، فإن المثال الذي تجسّده هو الذي يربك معظم محاولات الإتيان بإجابة وافية وشافية على ذاك السؤال. فسبب الكراهية ليس هو الإسلام: فهي مسلمة ولا تشعر بدافع لتفجّر نفسها وسط حشد من الألمان. مثلما أنه ليس السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية؛ فهي أيضاً تنتقدها ولها مآخذ كثيرة عليها، لكنها انتقادات لا تخرج عن إطار الانزعاج والاستياء الأوروبي الليبرالي التقليدي من قرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة، لاسيما إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش. كما أنه لا تكفي الإشارة بأصبع الاتهام إلى العنصرية والإسلاموفوبيا: فباعتبارها امرأة عربية وتركية ومسلمة، عاشت ميخنت وتربت في ألمانيا حتى أصبحت راشدة، من دون حوادث خطيرة. بيد أن فشلها في المجازفة بتقديم فرضية إيجابية واضحة لا يمثّل عيباً أو نقيصة في كتابها. ولعل إشارتها إلى أن معظم الفرضيات الأخرى خاطئة، وأنه حتى أقبح الجهاديين وأشنعهم هم بشر، يمثل بداية جيدة. ميخنت تقول إن «الدين لا يجعل الناس متشددين؛ بل الناس هم الذين يجعلون الدين متشدداً». وانطلاقاً من الشواهد التي تقدمها، يبدو أن لدى الجهاديين معتقدات دينية متطرفة تميّزهم عن آخرين ليسوا عنيفين، وإن كانوا يشتركون معه في الخلفيات أو التظلمات. وبالتالي، فهناك أشخاص سيؤون وأفكار سيئة، بما في ذلك أفكار دينية موجودة منذ وقت طويل، وما تفعله ميخنت هو محاولة عرض هذه العلاقة بشكل منظم ومميز وأنيق. الكتاب: قيل لي أن آتي بمفردي.. رحلتي وراء خطوط الجهاد المؤلفة: سعاد ميخنت الناشر: هنري هولت آند كو تاريخ النشر: 2017 عن جريدة الاتحاد.