* وصلني من بعض المخلصين؛ ولا استطيع أن أسميهم غير مخلصين؛ وصلني منهم ما يفيد بضرورة التهدئة في تناول الموضوعات ذات الصلة بالنظام الباطش في الخرطوم.. وتوقفت طويلاً في كلمة (التهدئة) بمشاعر استنكارية؛ إذ لا شيء اسمه التهدئة في الكتابة؛ بل هي إما حق وإما باطل؛ وبخلاف ذلك لا مدلول يرجى منها ولا فائدة (أي الكتابة)! فبالحق يُعرف الباطل.. قلت لمحدثي: هذا النظام ينتزع لنفسه حرية (القتل والاغتصاب والتحرش والإفساد.. الخ) فهل كثير علينا أن نكتفي بواحدة؟ أعني حرية التعبير لا غير..! * ولأن الحديث عن (أراقِم الأمن) طويل ومتشعب أخذنا المنحى إلى المصادرات التي لم تتوقف لصحيفة الجريدة (لسان حال المواطن)! وإيقافنا الذي قارب العام من الكتابة في نسختها الورقية؛ ولم نجد (شخصي وزميلي د. زهير السراج) لم نجد إلى اليوم ما نرد به للسائلين عن سبب حصري للتعنت الأمني تجاهنا؛ إلّا السبب الاستبدادي فحسب..! وكم هو مثير للسخرية أن يطالب بعض البرلمانيين البائسين بإلغاء القوانين المقيدة للحريات في ظل وجود جهاز أمني لا ينظر إلى القانون أصلاً باحترام (لا محلي ولا دولي) بل يظل مُرتكِزاً على الفوضى والتطفل حتى لو أُلغِيت كافة القوانين التعسفية.. فما فائدة وجود القانون أو الدستور إذا كان مجرد حبر على ورق يتبول فوقه كل من هبّ ودبَّ مزهواً ب(دقنِه)؟! * إيقافنا تم بما يمكن تسميته (المزاج البليد) فقط.. سيأتي زمن لسرد تفاصيل وأسرار حول ضروب البلادة.. فهل أصابنا تعنتهم بالضجر؟! كلا.. وهل أسهم إيقاف الأقلام في تقوية النظام الإجرامي الخرِب؟ هل أسهم في ارتفاع قيمة الجنيه أو أعفى السلطة من المطاردة الدولية أو رفع اسمها من قائمة الإرهاب؟! وهل إيقافنا عن الكتابة صرف عن قادة السلطة الاحتقار العربي والعالمي لهم؟! هل حرماننا من الكتابة الورقية جعل النظام وأمنه يتفرغون للعمل على تحسين صورة السودان التي ينسفونها نسفاً بسفهائهم ومتحرشيهم؟! الإجراء الأمني الجبان بمنعنا من الكتابة يردّه بعض النبهاء لانهزامية دولة السفاحين الحرامية أمام القلم عندما يرشح بقوة الحق وحده وبلا تهيُّب لأجهزة السلطة (السفلة لا هيبة لهم)؛ ولأن هزيمتهم كانت وستظل شديدة (بالأقلام المسنونة) الكاشفة لألاعيبهم؛ كان لابد أن يكون حرمان هذه الأقلام من النشر الورقي أطول وأشد.. فلم يزدنا المَنعُ سوى مِنعة وتوفيقاً ورزقاً بغير رزق (الراتب) الذي لم ينقطع، فقد ظلت (الجريدة) تصرف لنا مرتباتنا (قبل موعدها أحياناً) وكأن شيئاً لم يكن؛ مما يعد ظاهرة نادرة تخبر الزملاء والقراء بفخر عن معدن الناشر؛ مع المقارنة المفقودة بينه وبين غالبية ناشري الصحف (الغنية) بموالاتها للمتسلطين؛ وارتجافها أمامهم..! * كل ما ورد جانب؛ وملاحظاتنا حيال البلادة الأمنية المُصاحِبة لاعتقال البطل القاسم سيدأحمد جانب آخر (القاسم كان يدير الصفحة الفيسبوكية الشهيرة: مآسي حكم العسكر والكيزان في السودان)؛ تم ترحيله من السعودية إلى السودان بطائرة خاصة مقيداً معصوب العينين كبقية زملائه في رحلة التشفي الأمني العبثية؛ ليتكشَّف للعالمين فيما بعد أن القاسم تم التعدي عليه أمنياً في (لا قضية!!) هكذا ببساطة.. فمن يقرأ إفاداته بصحيفة (الراكوبة) عقب خروجه من معتقلات الجهاز المتخلف سيجد إجابة للسؤال: لماذا انحطت الدبلوماسية والدولة السودانية عموماً بالأوباش الأمنيين الموزعين على السفارات والأوكار؟! القاسم ورفقته تم القبض عليهم في السعودية وأفرج عنهم لعدم وجود (شيء) يدينهم.. نستخلص هذه النتيجة من مجمل الحكاية..! كل ما جرى لهم كان بسبب تضافر الحقد مع البلادة الأمنية والرغبة في الانتقام؛ إذ يأمل (القبَّاضِين) في الترقيات والمخصصات ورضا القادة حين يصبّون حقدهم على المعارضين؛ بمثلما ينتظر الرقيب الصحفي الترقية والحوافز حين يمنع الصحفيين والصحفيات من الكتابة بأساليب متعددة.. هذه الأساليب مُبررَة للأمن بعدم ولاء الممنوع للعصابة الحاكمة..! لكن في جوهر الفعل الأمني فإن المنع أكل عيش بالنسبة للرقيب؛ هذا ما لمسناه بالمعايشة الليلية لبعض الرقباء.. وتبقى العملية الأمنية برمتها (حماية نظام فاسد مفسد؛ رخيص خارجياً وداخلياً؛ لن يُصلِح ولن ينصَلِح؛ قولاً واحداً) فهل بعد هذا انحطاط؟! * يقول القاسم في هذه الجزئية التي ننشرها بتصرف: (السفارة لديها ضابط أمن بلقب سفير "…" من سكان مدينة الصحافة، أذكر أن مشكلتي مع الأخير أننا كنا قد التقينا في تجمُّع كبير من أبناء الصحافة.. وغالبية شباب الصحافة الموجودين في الرياض "كيزان" وقام كل واحد بتعريف نفسه؛ فعرَّفتُ نفسي بأنني من معارضي النظام؛ وعندها شعر هذا الرجل بالإهانة من كلامي وترتب على كلامي ذلك ظرف اعتقالي وما تبعه؛ وكأن تعريف نفسي بمعارض للنظام يُعتبر جريمة… الخ). انتهى. * في جزئية ثانية نقرأ كلام القاسم بإيجاز: (قال لنا مدير المباحث: انتو عايزين تقلبوا البلد زي سوريا.. الخ). انتهى. يتغافل هذا المدير بعقله الصغير أن السودان في عهد الدولة الأمنية سبق سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال إلى الخراب..! * في فقرة أخرى يتحدث القاسم عن ضابط أمن قال له: (نحن ما عندنا دين وما مسلمين.. الخ). انتهى. لعل هذه الفقرة تستوجب تحية هذا الضابط على جرأته في الصدق؛ والحديث بصراحة غير معهودة في المتأسلمين.. إنه لا يتحرَّج من كونه بلا دين؛ بعكس كثيرين يكذبون على الله..!! * أما إذا أردنا تأكيد المؤكد وهو (اللا احترافية واللا ذكاء واللا أخلاق في أمن الحزب الحاكم) فلن نجد غير هذه اللغة الفاضحة للأمن كجهاز عشوائي لا براعة لجُلّ كوادره ولو بالحد الأدنى في توجيه الاتهامات الجزافية.. يقول القاسم: (في اليوم الأخير جاءني ضابط وطلب مني أكتب إعتذار لإطلاق سراحي؛ وقلت له: الذي يعتذر هو من يخطئ وأنا ما غلطان وبمارس حق من حقوقي.. فقال لي: عندك قروب فيهو 200 ألف شخص ممكن يكون عندك ناس عندهم سلاح أو تفجيرات وأنت تكون ساعدتهم). انتهى. لا أظن هذا الضابط قرأ كتاباً في حياته؛ لكن ألَم يشاهد حتى الأفلام مثل (إحنا بتوع الأتوبيس)؟! أيُعقل أن يكون الأمن هاوٍ للإعتذارات لهذه الدرجة الوضيعة؟! وهل (مساحيق الإعتذار) التي حُظِىَ بها جهاز الأمن مِن قبل غيّرت صورته المشوهة؟! * تأملوا الوهن والانسداد في كلمة (ممكن…) فهذا الضابط بعجزه المهني الذي يمثل مرحلة الحكم الغبراء (خير تمثيل) يتهجم بآلفاظ تنم عن فقر في المعلومات؛ فهو غير متأكد إن كانت الصفحة الفيسبوكية المعنية تضم مسلحين أم لا.. إنه يبني الاحتمالات بسوء النية وليس بقطع الشك بالمعلومة الدقيقة.. لذلك لن نستغرب إذا تم اعتقال أشخاص أو تلفيق تهم لآخرين بالإفتراء؛ بناء على تبلُّد أمني مَحض..! * (الله يستر عليك) عبارة الوداع التي قالها (اللواء الأمني) في وجه المجني عليه القاسم سيدأحمد.. ولو تفحصنا ما وراء هذه العبارة بعمق زاد يقيننا بأنها تهديد مُبطَّن..! فلا يوجد رجل أمن يعمل داخل نظام قمعي مخادع ويتمنى الستر للمناضلين معارضي الطغيان..! ولكن في عهد صارت فيه المعتقلات بديلاً للمصانع؛ والارتزاق بديلاً للوطنية؛ ليس بالغريب هذا الشذوذ والترذُّل..! كفى به عهداً حقيراً أن يعتلي المناصب والرُّتب لفيف من الجهلاء؛ السفلة؛ والسفهاء..! أعوذ بالله الجريدة