عندما جلست الى أستاذ الأجيال اسماعيل العتباني قبل رحيله الفاجع في العام 2009م بداره العامرة في ابوروف وعلى بعد اقدام قليلة من نهر النيل الخالد، شعرت بأنني أمام كنز من المعلومات والتاريخ الوضيء. معلومات مهولة لا يمكن القول ان مذكراته قد احاطت بها جميعاً. فالشيء عنده بالشيء يذكر، وقد اعانني الرجل على امري تماماً رغم كثرة الدرر التي نثرها. يأسرك بعذب حديثه وسلاسته في دار تحيطك فيه مئات النباتات الجميلة النادرة وهي تتوهج بالخضرة وينعشك الشاي الاخضر الذي يصر على تقديمه لك بنفسه. .................؟! لابد من عودة قصيرة للوراء.. فقد انشىء في كلية غردون فصل للحقانية لتدريب القضاة المدنيين وكانت أول دفعة تضم احمد متولي العتباني ومحمد احمد المحجوب وكان الغرض اعدادهم ليكونوا قضاة. وفي الدفعة الثانية توسعوا فضمت الدفعة مجموعة على رأسها بابكر عوض الله ليكونوا قضاة. ومنحت الفرصة الثانية للموظفين ليكونوا محامين. وكان من بينهم احمد خير ومبارك زروق وكنت معهم. وبعد عامين من الدراسة توقفت. ومرت عليّ فترة من الزمان كنت افكر فيها، هل اعود موظفاً لدائرة المعارف كما كنت. ام اتوكأ على عصاي وادخل السوق؟ وفي اثناء هذا التفكير وقبل ان احزم امري. اتصل بي مندوب من جريدة صوت السودان يريدونني ان اصبح رئيساً لتحرير الصحيفة، وطغت علي سعادة لا انساها واعتبرت ذلك العرض هدية مرسلة من السماء، فرحبت بالفكرة وقبلت بالعرض وطرحت شرطاً اساسياً يتم بموجبه الاتفاق وهو ان تكون الصحيفة ذات اتجاه قومي وكما هو معلوم فان صوت السودان كانت لسان حال الاتحاديين وتفاهمنا حول هذا الأمر ووافقوا عليه.. .................؟! كانت لي معرفة وصداقة سابقة عبر مؤتمر الخريجين الذي كنت اتمتع بعضويته مع الاساتذة احمد خير وابراهيم عثمان اسحق وحسن نجيلة واحمد مختار وميخائيل بخيت. هؤلاء جميعاً ومعهم صاحبي عبدالله ميرغني عاونوني في صوت السودان بالمجان. كان ذلك في العام 1940 وكانت لنا حرية كاملة في العمل نحرر الجريدة كما نريد. ولانني كنت عضواً في مؤتمر الخريجين فقد كرست الصحيفة له لانه لم يكن يملك صحيفة تعبر عنه ولابد ان اذكر هنا ان الختمية كانوا وطنيين الى اقصى درجة ولم يتدخلوا في عملي اطلاقاً وكانوا يتحملون كامل الصرف عليها وكان المدير المالي للصحيفة ختمياً وكان يعمل مديراً لاحد البنوك وظل باستمرار يأتي لمكاتبنا مؤازراً ويطالبنا بالعمل على زيادة التوزيع قائلاً ان ذلك يعني (الفلوس.. الفلوس)، حتى اصبح ذلك اسماً يردده علي حامد كلما ابصره قادماً الينا. ................؟! لا انسى ابداً الاستاذ احمد خير، فقد كانت له طاقة عجيبة على العمل ويكفي انه دخل الى الحقوق وهو شيخ في الاربعين وكان مبرزاً رغم ان دفعته ضمت طلاباً اذكياء مثل مبارك زروق وبابكر عوض الله وكانت له اشراقات لتطوير صوت السودان وبالفعل قام بوضع ميزانية لتطويرها، ولما قدمناها للمدير المالي قال لنا: كترتوهو.. كفاية اعطيناكم التحرير فلا تتدخلوا في الاشياء الاخرى. ..................؟! اثناء عملي في صوت السودان كنت متشوقاً للمعرفة وكنت اقضي اغلب الوقت في الادارة والمطبعة الى الدرجة التي كنت ادير فيها المطبعة عند غياب مديرها لذلك ادركت كل اسرار المهنة الادارية والفنية.. ثم نظرت حولي فوجدت ان الجرائد اليومية كلها حزبية وانا مستقل ففكرت ان اتقدم للحكومة بطلب تصديق صحيفة يومية مستقلة.. تقدمنا بالاسم وتم التصديق لنا لم اكن املك مالاً ولا مطبعة فاجتمعت مع اصحابي مجدداً فاتفقنا على توجيه نداء للشعب السوداني قلنا فيه.. نحن ابناؤك نريد اصدار جريدة مستقلة تخدم كل السودانيين وطرحنا عرض بدفع الاشتراك المطلوب مقدماً وكانت الاستجابة مذهلة وتجمع لدينا مبلغ محترم قبل ان تصدر الجريدة وتلك رحمة ربي تتجلى لي دائماً في أيهى صورة.. ...............؟! جاء المال وتبقت الدار والمطبعة.. ذهبت لرجل الخير عبدالمنعم محمد وشرحت له الفكرة وعلى الفور خصص لنا مكاناً في عمارته القديمة خلف البنك التجاري “شارع الجمهورية” واحضر ابن عمي محمد عبدالحليم اثاث المكتب.. ..............؟! كانت هناك شركة انجليزية تمتلك مطبعة لطباعة الاوراق الحكومية وكان بها قسم تجاري فذهبت اليهم فاستقبلوني استقبالاً جيداً وسألوني سؤالاً واحداً ومباشراً هل انت مستعد لدفع الفاتورة وهكذا ظهرت الرأي العام في اجمل حلة في 15 مارس 1945م وبدأنا نطبع في اليوم الف نسخة وفي عام 1946م جاءتنا دعوة لزيارة انجلترا.. يوسف التني وامين بابكر ومحمد علي بشير فوراوي وشخصي واقامت لنا شركة ماركوديل التي تمتلك مطبعتنا في الخرطوم حفل شاي ووقف مدير فرعها في الخرطوم وقدمني للحاضرين قائلاً اقدم لكم الرجل الذي يدفع فواتيره.. ...................؟! امتلكنا اذاً طباعة متميزة ومختلفة واغلب المحررين كانوا يعملون مجاناً وكان اصحابي عبدالرحيم وشي ومصطفى الريح وعابدين محجوب يوصلون الاشتراكات للبوستة دون مقابل وكان الشخص الوحيد الذي يعمل بأجر هو المراسل احمد الفحل من اهالي كلي وكان مرتبه 4 جنيهات وبعد صدورنا باربع سنوات جلبنا مطبعة من مصر وظلت الرأي العام تصدر على مدى 24 عاماً متواصلة حتى اوقفتها مايو في عام 1969م.. .................؟! تسألني عن المتاعب والمشاكل التي واجهتني في مسيرتي الصحفية.. اقول لك.. في زمن الانجليز كانت هنالك الحرب العالمية الثانية والسودان كان مع الحلفاء ولا تنسى الدور الكبير لقوة دفاع السودان والانجليز بصفة عامة يقدرون حرية العمل الصحفي ورغم ذلك حدثت ازمة كبيرة عام 1947م فبعد زيارة لوفد شمالي الى الجنوب في محاولة لجمع السودانيين على صعيد واحد ونجح الوفد في مهمته التي كانت تتعلق بكون الجمعية التشريعية للسودان كله شماله وجنوبه وكان برفقة الوفد السكرتير الاداري للحكومة الذي عقد مؤتمراً صحفياً بعد العودة من الجنوب وطلب الاسئلة مكتوبة وفي المؤتمر هاجمه الصحفيون واتهموا الحكومة بمحاولة فصل الجنوب فرمى لهم القانون وطلب اليهم ان يشيروا للمادة التي توضح ذلك فأوضحوا له ان اي اذن او تصريح او تأشيرة ولما ضيقوا عليه الخناق انفعل وقذف بأوراقه وراأوخرج تاركاً القاعة فغضبنا واعتبرناها اساءة وعقدنا اجتماعاً في دار الرأي العام واتفقنا جميعاً على تدبيج مقالات تهاجم الحكومة وتنتقد مندوبها الذي يرمي اوراقه في وجه السودانيين وبالفعل صدرت الصحف علي قلب واحد موحد فأوقفت الحكومة جميع الصحف عن الصدور واصبحت البلد بدون جرائد.. ..............؟! الحكومة بذلت عدة محاولات لسد الفراغ فاصدرت نشرة رسمية تحمل الاخبار ولكن اصحاب المكتبات و(السريحة) قاطعوها فشعرت الحكومة بالحرج واتصلت بالسيدين واوعزت اليهم باصدار الاوامر لصحفهم لتصدر ولكن موقف السيدين كان كريماً فرفضوا هذا الامر بأدب وعندما اعيت الحكومة الحيل بعثت لنا مدير الصحافة مستر اربرت الذي كان مهذباً وقال لنا ان الحكومة تريد ان تتفاهم معكم وقدم عرضاً تمثل في ان تقوم الحكومة باعادة الرخص وتقوم الصحف بوقف هجومها على مستر روبرسون السكرتير الاداري وهذا ما حدث بالفعل وهكذا عادت الصحف للصدور بعد توقف دام لاكثر من اسبوع.. اظهر تضامن الصحافيين ووطنيتهم وتقدير القيادات الحزبية لذلك التضامن الوطني بل ان التضامن امتد ليشمل اصحاب المكتبات والموزعين كانت ملحمة عظيمة.. .................؟! في العهد الحزبي الأول لم تكن هناك مشاكل تذكر فقد كنا مؤيدين للحركة الوطنية فلم يكن هناك شد وجذب يكفي لقطع الحبال.. اما عهد عبود فلم يكن “بطال” كان الراحل طلعت فريد (ماسك) الاعلام ووجد من يقول له بدلاً من الاعتماد على الجرائد الاخرى لماذا لا تصدرون صحيفة خاصة بكم وبالفعل اصدروا صحيفة كان حجمها كبيراً ضعف حجم صحفنا وكان الباعة ينادون عليها قائلين “البرش بقرش” وفشلت صحيفة الحكومة فدعوا عبود لتأميم الصحف وطرحت تلك الفكرة وعلمنا بها من صديق “الرأي العام” الاستاذ احمد خير الذي كان وزيراً للخارجية وعندما علمنا بنية الحكومة للتأميم سطرنا في الرأي العام عشر مقالات من نار وقلنا ان التأميم تكميم للأفواه وحرية التعبير والرأي.. كان عبود عظيماً ودعا لاجتماع للمجلس واستمع فيه لكل الآراء ورفض التأميم قائلاً (بلاش كلام فارغ). ...............؟! جاءت اكتوبر وقضت على عبود ذلك الرجل الذي كان يقول “احكموا علينا بأعمالنا” ولم تشفع له اعماله العظام.. وفي اكتوبر ولأن بقادي كان يكتب في الرأي العام ضد الشيوعيين انتهزوا الفرصة واتفقوا مع الاخوان المسلمين “ربما لأول وآخر مرة” على شيء واحد احراق الرأي العام.. وفعلوها.. ................؟! الديمقراطية الثانية كانت سيئة ويكفي انها كانت السبب في مجيء مايو والنميري.. مايو كانت عهداً سيئاً حطم الكلمة الحرة مايو اممت الصحف ودمرت الاقتصاد السوداني سمعت بخبر التأميم من تاجر جاءنا وهو يقول: امموكم.. امموكم ولم اعد للجريدة من يومها وفي الفترة التي صدرت فيها بعد ذلك ترأس تحريرها الراحل الفاتح التجاني وكنت قد تركت له وللاستاذ محمد سعيد محمد الحسن الخيار فاتفقا على الفاتح.. لقد كان لي رأي في النميري منذ البداية ولم يخب ذلك الرأي.. ..................؟! نعم.. نعم كانت لدينا عربة بوكس واحدة لتوزيع الجريدة مع سيارة اخرى للمحررين الذين كانوا في الغالب يستخدمون الترماي او الطراحات او الكداري في اداء مهامهم وعلى مدى 24 عاماً هي عمر الرأي العام ومنذ صدورها حتى توقفها ظل سعر الصحف ثابتاً قرش سوداني لا غير.. هيه.. الم اقل لك ان مايو دمرت الاقتصاد السوداني الاعلانات كانت قليلة والاعتماد الكبير كان على الاشتراكات والتوزيع اذكر انه وعند قيام شركة للبيرة في السودان انهالت اعلاناتها على الصحف ورفضنا في الرأي العام نشرها.. وبسبب ذلك تلقى السيد عبدالرحمن اللوم اذ قال له الناس العتباني يرفض نشر اعلانات البيرة وجريدتك تنشرها.. رغم حاجتنا لاموال الاعلانات لكننا رفضنا كل اعلانات الخمور.. ................؟! أنا راض كل الرضا عن الرأي العام الآن وسعيد تماماً بالنجاحات والتطور الذي لازمها.. لقد لمست في ابني علي حماساً ورغبة قوية في المضي بالرأي العام قدماً كما احببت ان يكون له طابعه وشخصيته لذا تركت له مطلق الحرية.. وكنت اتمنى ان اكون معهم ولكن احكام العمر.. لقد كان حلم حياتي ان اصدر صحيفة وهو حلم يسعدني استمراره بكل هذا النجاح وهذا الاقتدار.. لا شك في ان سعادة الانسان ان تتحقق احلامه وان تنجح وان يستمر النجاح.