تلقيت النبأ الفاجع لدى عودتي للخرطوم من الاستاذة سمية سيد، واجتاحتني موجة من الحزن الكثيف، فعلاقتي بالراحل العزيز فتح الرحمن البشير بدأت مع عملي في جريدة (الرأي العام) كان ضابطا لبلدية مدينة أم درمان، ووقتها كان ضابط البلدية هو الحاكم الفعلي للمدينة، وغطيت اخباره وعلى الصفحة الاولى ل(الرأي العام) وانشطته المتعددة الجادة لجعل ام درمان الاكثر نظافة واناقة وجمالاً وتخطيطاً، الى جانب عراقتها، وتوطدت وشائج الاخاء والصداقة، وعبره تعرفت على الاصدقاء الرشيد الطاهر، ودفع الله الحاج يوسف، ومحمد يوسف، وبدرالدين سليمان، ومحمود حاج الشيخ، وابوعاقلة يوسف، وعلي شمو وغيرهم كان يجمعهم في منزله المطل على النيل بجوار مباني الاذاعة بام درمان للافطار، ثم يدار النقاش والحوار السلس على قضايا ثقافية وسياسية واقتصادية وغيرها، وآنذاك، الحديث حول التطلعات والآمال، وليس المشاكل والازمات، وحضرت له حفلا اقامه على شرف اميرة اوروبية في حديقة الموردة المتألقة بالخضرة والورود، وقال لها فتح الرحمن البشير ان السودانيين يحبون كل الشعوب، ويتطلعون لصداقتها والتعامل معها وان الذين يشاركون في الحفل والذين اصطفوا لاستقبالها ارادوا التعبير عن هذا المعنى، وردت الاميرة متأثرة: انها سعيدة لكونها في أم درمان، وان ما شاهدته ولمسته يؤكد انها في مدينة عريقة وان اهلها يتصفون بحضارة السلوك والمظهر، وقد شبهته بأنه امير المدينة لانه يعبر عنها ويمثلها تماماً. ثم تابعت نقلته المهمة من ادارة المدن الكبرى الى ادارة الاعمال، وحقق نجاحا مذهلاً في دوائرها المتعددة، تجارة وصناعة وتموين وتمويل واستطاع بقدراته الشخصية ان يكون اكبر من اي منصب دستوري او تنفيذي، وان يعقد صفقات واتفاقيات مالية كبيرة مع شركات عالمية، وظل على تواضعه في علاقاته مع الكافة، وعلى وفائه النادر باصدقائه الذين اخذ يلتقي بهم على مائدة الغداء ظهر الجمعة في منزله بالخرطوم، واسجل له بالتقدير والوفاء، ان اول حفل كبير اقيم لي، نظمه فتح الرحمن البشير بمنزله بمناسبة عودتي من فترة تدريبية صحفية في فرنسا، ودعا فيها الاصدقاء والزملاء والرموز الكريمة. وكان وطنياً مخلصاً ومتجرداً لا يتوانى عن الاضطلاع بأية مهمة، وعمل يخدم الوطن، ولا نزال نذكر له جهده الوطني الخارق في صناعة أول مصالحة وطنية في العام 1977م بين الرئيس جعفر نميري وزعيم المعارضة السودانية بالخارج السيد الصادق المهدي، وقد كانت آنذاك حدثاً مدوياً عندما اعلنت، لان السيد الصادق المهدي قد عقدت له محكمة قضت باعدامه لدوره في احداث يوليو 1976م، وكان المثير في هذه المبادرة ان فتح الرحمن البشير احضر بنفسه السيد الصادق المهدي من روما للقاء الرئيس جعفر نميري في مقره ببورتسودان ثم اعاده الى مقره، وكان انساناً نبيلاً وباراً بأهله ومعارفه وبمن يلجأ اليه في عمل أو خدمة أو مساعدة، ينفق بسخاء وبشاشة واريحية تزينها الكلمات الطيبة المبشرة. وكان ملاذا للكثيرين، ساسه، وقادة، ومديرين، ووزراء، وأصدقاء واساتذة يقدم لهم المشورة ويطرح امامهم الخيار، والنصح السديد لانه امتلك الفكر والخبرة والدراية والصدق. والاهم من ذلك انتماء اصيل للوطن وللخصال الحميدة والارض والتراث العريق، لقد كان رمزاً وسيماً وسامقاً ومتميزاً في الزمن الجميل، واحتفظ بهذه الرمزية والحضور الحسن حتى رحيله. اسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والغفران. (إنا لله وإنا إليه راجعون) . صدق الله العظيم