دبابيس ودالشريف    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    شاهد بالفيديو.. غرق مطار دبي    قوة مختصة من مكافحة المخدرات نهر النيل تداهم أحد أوكار تجارة المخدرات بمنطقة كنور وتلقي القبض على ثلاثة متهمين    ماذا حدث بالضبط؟ قبل سنة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    قمة الريال والسيتي بين طعنة رودريجو والدرس القاسي    رونالدو ينتظر عقوبة سلوكه المشين    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    ولايات أميركية تتحرك لحماية الأطفال على الإنترنت    قطر.. متقاعد يفقد 800 ألف ريال لفتحه رابطاً وهمياً    جيوش الاحتلالات وقاسم الانهيار الأخلاقي المشترك    خبير نظم معلومات: 35% من الحسابات الإلكترونية بالشرق الأوسط «وهمية ومزيفة»    مصر.. ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار خلال 2023    شرطة دبي تضبط حافلة ركاب محملة بأسطوانات غاز!    مواطنو جنوب امدرمان يعانون من توقف خدمات الاتصال    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    تفاصيل إصابة زيزو وفتوح في ليلة فوز الزمالك على الأهلي    اجتماع للتربية فى كسلا يناقش بدء الدراسة بالولاية    شركة تتهم 3 موظفين سابقين بسرقة عملائها    شاهد بالفيديو .. قائد منطقة الشجرة العسكرية اللواء د. ركن نصر الدين عبد الفتاح يتفقد قوات حماية وتأمين الأعيان المدنية المتقدمة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    ضبط الخشب المسروق من شركة الخطيب    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    رفع من نسق تحضيراته..المنتخب الوطني يتدرب علي فترتين    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    ليفربول يسقط في فخ الخسارة أمام كريستال بالاس    الجمارك السعودية: دخول الأدوية مرهون بوصفة طبية مختومة    شاهد بالفيديو.. مالك عقار يفجرها داوية: (زمان لمن كنت في الدمازين 2008 قلت ليهم الجنا حميدتي دا أقتلوه.. قالوا لي لالا دا جنا بتاع حكومة.. هسا بقى يقاتل في الحكومة)    شاهد بالفيديو.. الفنانة هدى عربي تدهش وتبهر مذيع قناة العربية الفلسطيني "ليث" بمعلوماتها العامة عن أبرز شعراء مسقط رأسه بمدينة "نابلس" والجمهور يشيد بها ويصفها بالمثقفة والمتمكنة    أرسنال يرفض هدية ليفربول ويخسر أمام أستون فيلا    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    لن تنهار الدولة ولن ينهار الجيش باذن الله تعالى    انتحلوا صفة ضباط شرطة.. سرقة أكبر تاجر مخدرات ب دار السلام    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من ذاكرة التاريخ : الانتفاضة فى مدني : واحداث اعتقا ل عربة البروفسير عثما ن كشومة:عادل علي صالح


مقدمة
لا بد من لمجة تاريخية خاطفة عن الارض السياسية التى تفجرت فيها الانتفاضة ،وعن كنتور طبيعة تضاريسها ، والبيئة التى عايشتها ، وعن المناخ الحياتي الذي اثر وارتبط ارتباطا وثيقا بحياة كل الناس . النضال ضد دكتاتورية نميري هو فعل تراكمي ، منذ استيلائه على السلطة فى مايو 1969 وسقوطه فى ابريل 1985.
الانتفاضة ، بدأت تتبلور وتتشكل فى مخيلة الوعي الوطني ، منذ اعلان سيئة الذكر قوانين سبتمبر 1983 ، وبداية الكفاح المسلح فى الجنوب ، الذي قادته الحركة الشعبية لتحرير السودان . مرجل الغضب الشعبي وصل قمته عند تنفيذ حكم الاعدام على الاستاذ الشهيد محمود محمد طه في 18 يناير 1985. فكانت نقطة الا عودة للمد الثوري ضد حكم الطاغية. كان ذلك السبب الرئيسي لتكوين التجمع النقابي فى الخرطوم بعد ان سيطرت القوى الوطنية على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ( رفض طلاب حزب الامة المشاركة فى التحالف لوجود الشيوعيين ؟) . وفى ذات الوقت فاز تحالف القوى الوطنية بمقاعد اتحاد طلاب جامعة امدرمان الاسلامية . وفي مدني انفرد مؤتمر الطلاب المستقلين بمقاعد اتحاد طلاب جامعة الجزيرة . دانت السيطرة للقوى الوطنية الطلابية متحالفة ، ومؤتمر الطلاب المستقلين منفردا على معظم الاتحادات بمؤسسات التعليم العالي .
في ذات الوقت كانت جماعات الهوس الديني ، الاخوان المسلمين بمختلف مسمياتهم ، يبايعون الدكتاتور السفاح ويحتفلون بتنصيبه اماما للمسلمين . احزاب اخرى معلومة تجلس قياداتها ، على مقاعد مبطنة بدماء انصارهم ، فى اللجنة المركزية للحزب الحاكم الاتحاد الاشتراكي ، بعد ان ادوا قسم الولاء للتنظيم القائد؟ . فى هذه الفوضي كان السودان يدور في اخر ايام نميري ، من حيث انفجرت الانتفاضة
.
عشية الانتفاضة المجيدة:
الزمان ... الجمعة ... الخامس من ابرايل 1985 .
المكان... مدينة ودمدنى... المدينة الجامعية .. ( النشيشيبة ) .. جامعة الجزيرة
تقع على الطرف الشمالي خارج حدود المدينة القديمة ... يحدها من الجنوب طريق مدنى القضارف المؤدى الى كبرى حنتوب ومن الغرب طريق مدنى الخرطوم .. ومن الشرق النيل الازرق ومن الشمال قرية عترة.
دُغُش صباح ذلك اليوم ...افقه يعبق برائحة دعا ش الثورة التى ستمطر بعد حين على سوداننا .. الذي لم يهن يوما علينا .. كما تغنى وردي ... اما بالنسبة لاهل مايو وسدنتها لم تكن افق الخرطوم لتتشح بذلك الاكفهرار الذي ينذر بهبوب العاصفة ! ، التي سوف تدك حصون الدكتاتورية ... كانت بوادر خريف الديمقراطية فى السودان .. مترع اودية ارضنا اليباب وسهوله ماءَ وخضرة... بالنسبة لنا ممثلى اتحاد طلاب جامعة الجزيرة .. اتحاد مؤتمر الطلاب المستقلين فى التجمع النقابى ( تحت الارض ) والذي كان لنا شرف الدعوة لتكوينه .. الماجد طارق الشيخ الطيب رئيس الاتحاد ، الماجد مرتضى كمال خلف الله السكرتير الاكاديمي ، عادل على صالح سكرتير العلاقات الخارجية . عبارة عن بداية يوم جديد نواصل فيه العمل لاسقاط دكتاتورية مايو . نتابع تنفيذ تكاليف اجتماع اليوم السابق .. والاستعداد بعمل الترتيبات الازمة لاجتماع اليوم .. الاجتماعات كانت مرتين فى اليوم وفي حالة انعقاد دائم فى ايام اخر.. ( لاسباب امنية ) يحدد مكان الاجتماع فى او قبل ساعة من انعقاده .. وفق اجراءات تحويطية معينة متفق عليها .. تحدد منزل كبير المهندسين عبدالحفيظ النور حسن مكاننا لانعقاد اجتماع اليوم الجمعة 5 ابريل . فى جامعة الجزيرة ، المدينة الجامعية ، النشيشيبة ،حى الاساتذة . لمن يصل عن طريق مدخله الشرقي ، يقع على الناصية ، مع اول طريق فرعي ، يفتح شمالا ، من الناحية المقابلة ، منزل الدكتور يحي بشير سراج ، المحاضر بكلية العلوم الزراعية و عضو نقابة الاساتذة بالجامعة ويجاوره من الناحية الغربية منزل البروفسير عثمان على سيد احمد ( كشومة ) ، المحاضر ورئيس قسم البساتين بكلية العلوم الزراعية والى الشرق الشارع المؤدي الى الحي ، وعند تقاطعه مع الطريق المتجه غربا ، يوجد ( كشك الخفير) او حارس الحي ، ومن ثم فسحة ميدان واسع ، يمكن ان تري داخليات الطالبات على حواف اطرافه الشرقية . انجزنا كل المهام التي كلفنا بها ، فى اجزاء مختلفة من المدينة ... لتغطية نشاطاتنا ، وتمويه رجالات الامن ، كنا نستعمل اكثر من سيارة فى اليوم الواحد ... هذه السيارات ( العربات) مملوكة لافراد من ابناء هذا الشعب لم يتوانوا فى اللحظات الحرجة ولم ينكسروا رغم القمع والاعتقال والتضييق الذي تمارسه اجهزة امن السلطة ، فى سبيل دعم الحرية والديمقراطية .. كانوا كراما يبذلون ممتلكاتهم الخاصة فى نصرة الحق الوطني . الحصول والوصول الى هذه السيارات لم يكن بالمهمة السهلة بل تحتاج الى حرص محسوب.. على سبيل المثال ... ياتي شخص لا نعرفه فى ( بيت التامين ) ..وهو المكان الذي ندخله لنقضي فيه الثلث الاخير من الليل ونغادره عقب اذان وصلاة الصبح . ويلقى علينا السلام ب كود متفق عليه ( كلمة السر ) ويسلمنا معلومات عن مكان السيارة وموضع المفتاح .. في معظم الاحوال يكونا فى موضعين مختلفين ... المفتاح يوجد فى موضع معين فى شارع عام معلوم ، السيارة نفسها فى مكان بشارع اخر ... وحتى لحظة كتابة هذه السطور .. اي ما يقارب الثلاثين عاما لم يتسنى لنا شرف معرفة معظم هؤلاء الابطال السودانين .. فلهم التحايا الوطنية على نبلهم وشجاعتهم .
وبنفس القدر كانت بيوت اهالى المدينة مفتوحة ابوابها فهُم فضيلة الكرم والشهامة و الجود ، هذا اقل ما يمكن ان نقول عنهم في هذه العجالة .. ندخلها فى اواخر الليل ، نسترق الحظات لغفوة قريرة ، وننهض مع اذان الفجر . فى معظم الاحوال ... لا نرى احدا من اهل الدار . وكنا مضطرين ان لا نقضي ليلتين فى مكان واحد ، حسب ترتيبات السلامة ولتامين . هكذا مضى بنا الزمن منذ اغلاق الجامعة فى 31 مارس وحتى انبلاج فجر الثورة فى 6 ابريل 1985.
وصلنا الى منزل كبير المهندسين عبدالحفيظ النور فى تمام الساعة الواحدة بعد الظهر . وجدنا بالمنزل ، كل من البروفسير عثمان فضل (عميد كلية العلوم الزراعية ) ، الدكتور محمود عبدالله ( عميد الطلاب ) ، الدكتور يحي بشير سراج ، والبروفسير عثمان كشومة و المهندس عادل سليمان . توافد الاعضاء ممثلى النقابات الدكتور محمد فراج ( الاطباء) ، المهندس محمد السنى ( المهندسين ) الاستاذ مجدى سليم ) المحامين ) ، الاستاذ جعفر عبدالرازق ( الهيئة القضائية) . السيد عبدالمنعم رحمة ، السيد محمد الحسن ( عمال نسيج النيل الازرق) . الاستاذ عبدالعزيز عبدالمنعم ( الزراعيين ) الاستاذ عبدالرحمن حامد ( الضباط الاداريين ) و السيد محمد على رستم ( مشرف مشاتل جامعة الجزيرة).. واخريين (ارجو المعذرة ممن فاتني ذكر اسمائهم..).
كانت اجندة الاجتماع هي التحضير للمسيرة الكبرى يوم الغد السبت 6 ابريل ، وكان الاعداد يجري بالتنسيق مع التجمع النقابي في الخرطوم لتتزامن مع المسيرة التى تقرر ان تكون فى نفس اليوم والزمان هناك .. كانت مهمة كتابة كل بيانات التجمع ونقاباته ، مكلف بها الاستاذ مجدى سليم المحامي ، والماجد طارق الشيخ . وكانت مهمة طباعة البيانات على الالة الكاتبة وتوزيعها على المراكز .. مسؤولية الماجد مرتضى كمال ، وعادل علي صالح ومن ثم يشارك بعض الحضور فى تشغيل مكنت الرونيو ، وترتيب البيانات ... كانت الالة الكاتبة ومكنت الرونيو لاتفارقنا ابدا ، كنا ننقلها معنا فى ( ضهرية ) العربات تحت جنح الظلام من مكان الى اخر ومن عربة الى اخرى. رحم الله البروفسير الانسان الطيب على الحاج المشرف الادراى لكلية العلوم الزراعية والذى كان لتعاونه وموقفه الوطنى الصادق الفضل الكبير في تسهيل مهمة الوصول الى مكنة الرونيو الخاصة بالكلية ، وسماحه باستخدامها ، فقد كانت الوسيلة الوحيدة التى استطاع التجمع من خلالها ، التواصل مع جماهير مدينة ودمدنى عبر المنشورات المطبوعة عليها .
فى حوالى الساعة السادسة مساء ، بعد انتهاء الاجتماع وبعد الفراغ من نسخ وطباعة البيانات لكل النقابات المكونة للتجمع . كانت مهمتنا تنظيم توزيع تلك البيانات لممثلى النقابات فى الاحياء ، وبعض الافراد الناشطيين فى المدينة ، وبدورهم يوزعونها على حسب الخطة الموضوعة... كان علينا التحفظ العالي حتى لا تتعرض ثورة الجماهير في مهدها لهفوات انتكاسية قد تعرقل سيرها فى زحفها الصاعد .. وسيلتنا للتنقل هذه المرة .. سيارة البروفسير عثمان على سيداحمد ( كشومة ) .. وكما هو العهد به لم يتردد .. بل بادر بان سيارته جاهزة ومليانة بنزين . بالفعل .. اخذ مرتضى المفتاح ورافقه طارق وشخصي واكملنا المهمة بنجاح وتمكنا من تسليم بعض البيانات الى الاشخاص المنوط بهم ذلك . مثلا ، هنالك تاجر ، صاحب دكان فى حي بانت ، كان يمثل مركز توزيع رئيسي ، لبعض النقابات مثل عمال المؤسسة الفرعية لاعمال الري ، و نقابة البحوث الزراعية ، والعاملين بشركة مواصلات الجزيرة، والعاملين بالمدبغة الحكومية ، ولبعض الناشطين فى ذلك الحي ليتم نشرها بين السكان . كما تركنا الجزء الاخر من المنشورات فى مواقع ونقاط محددة فى ( حتات) مثلا بالقرب من عمود فى طرف الشارع ، او عند مدخل المستشفى او تحت صندوق فى السوق وهكذا ، لمناديب النقابات الذين سوف يحضروا فى وقت لاحق لاخذها. قررنا ان نعود الى النشيشيبة لاخذ مكنة الرونيو وتسليم البروفسير كشومة سيارته . تبقت لنا وقفتان الاولى منزل زملينا محمد الامين الجعلي ( الدفعة الاولى طب) فى حي بانت ، وان نترك طارق هناك ، ليمر به المهندس محمد السني ويذهبا سويا لمقابلة السيد صالح عوضة فى مدبغة الجزيرة ، لتنفيذ بعض المهام . والوقفة الثانية كانت لمقابلة عبدالعزيز عبدالمنعم فى نقطة بالقرب من منزله لتسليمه المنشورات الخاصة بالزراعيين وقد كان . جرت العادة ، كضرورة تامينيه ، تتطلب الكثير من اليقظة ، تملى التصرف بحيطة وحذر . لا نسلك طريق سير مباشر او ثابت ، خطوط السير شوارعا متعددة ودروب متعرجة غير مباشرة .. نغير اتجاهات حركتنا كثيرا.. حتى نتاكد من اننا غير ملاحقين او مرصودين من قبل اجهزة الامن .. يرجع الفضل للمهندس محمد السني ، ممثل نقابة مهندسي الري .. خبير التامين السياسي الذي استفدنا منه فائدة لا يمكن ان نعلمها من دونه .
حوالى الساعة العاشرة مساء تقريبا .. وصلنا الى منزل المهندس عبدالحفيظ النور عائدين من ود مدنى ، وبمجرد وقوف العربة ، امام المنزل نزلت لفتح البوابة .. اصابتنا الدهشة والحيرة ورفعت علامات التعجب .. لان الاتفاق ، البوابة سوف تبقى مفتوحة حتى نرجع ؟ وقفلها هو كلمة السر ، واعلان نجاح مهمتنا ؟؟ . منازل الاساتذة بالجامعة كان سورها الخارجي من الاشجار وابوابها الخارجية واسعة وقصيرة مصنوعة من الحديد ( الشبك ) يمكن ان ترى من خلالها بوضوح باحة المنزل وحديقته الامامية ، وتستعمل ايضا مدخل للسيارات .. اذا بصوت خفيض ينادي عادل ، مرتضي .. كان مصدره من اتجاه منزل الدكتور يحي بشير سراج ؟ .. وكما ذكرت في مرة سابقة ، هو المنزل المجاور فى الواجهة المقابلة .. يفصل بينهما شارع مسفلت ضيق .... خببت فى اتجاه المنزل وجدته عند البوابة من الداخل . نبهني الى ان ( نتصرف ) بسرعة لان قوة من الامن داهمت المنزل واعتقلت كل من فيه فى ذلك الوقت المهندس عبدالحفيظ النور والمهندس عادل سليمان ودكتور كشومة وصادروا مكنت الرونيو . والامن يراقب المنزل ، من كشك الخفير . عدت سريعا .. طلبت من مرتضى ، ان ( يدور ) وعلينا مغادرة المكان فورا ، اخبرته بكلام الدكتور ، واضفت ان علينا التصرف باسرع فرصة والتخلص فى الاول من السيارة ، لانها معروفة لدى جهاز الامن . وبمجرد خروجنا من حى الاساتذة .. وعند اللفة قبيل دار الاتحاد والنشاط الطلابي انتبه مرتضى الى ان هنالك موتر سايكل وعربة تايوتا (بوكس) ، بالقرب من داخلية الطالبات .. وبعد مدة من تجاوزنا مباني الكليات في طريقنا الى خارج المدينة الجامعية ، تراءت حركة انوار السيارة والموتر سايكل من على البعد من خلال الظلام الكثيف .. زاد مرتضى من سرعة السيارة ، انطلقنا شرقا فى طريق مدني – القضارف ومن ثم اتجهنا جنوبا بشارع الدباغة وانوار السيارة والموتر سايكل تقترب .. انحرف مرتضى يمينا ناحية سينما رودي.. لاحظت توقف السيارة البوكس على شارع الدباغة بينما ظل الموتر فى متابعتنا .. ثم فى اول طريق بعد السينما اخذنا يسار ، واستمرينا على نفس المنوال ، ناخذ يمين ثم نرجع شمال .. لا ندري وجهتنا . فجأة اختفى الموتر من متابعتنا ولم يبقى له اثر . لم نكن نلم بتفاصيل شوارع وازقة الاحياء الداخلية ... بالصدفة وحدها وجدنا انفسنا مرة اخري فى شارع الدباغة عند لفة حي المدنيين .. ثم واصلنا سيرنا فى اتجاه شارع النيل . انحرفنا الى اليسار عند المدرسة الاميرية لندخل حي ام سويقو ، وعدنا مرة اخري الى شارع النيل مرور بمباني رئاسة حكومة الاقليم الاوسط ، هنا ظهر الموتر مرة اخرى يتعقبنا ، انحرف مرتضى جنوبا بشارع الجمهورية المؤدي الى السوق الكبير . الموتر مازال يلاحقنا . ومرتضى يزيد من السرعة .. بالمناسبة هى سيارة تايوتا كرونا صالون اربعة ابواب .. وعند مكتبة الفجر وركن حديقة وقيع الله ، فجاة غير مرتضى الاتجاه ونحرف يسارا ، ثم انحرف يمين على شارع اتجاه واحد جنوبا . كانت الساعة تشير الى الحادية عشر والربع مساء.. السوق خالى تماما من اى حركة للافراد او السيارات ما عدا حركة بسيطة عند موقف المواصلات . وقبل ان نصل الى تقاطع شارع المستشفى اختفى الموتر مرة ثانية ، عندها غيرنا اتجاه السير ، بدلا من دخول المستشفى ، اتجهنا غربا بشارع الدكاترة ... لمنزل احد الاقارب فى ذات المنطقة ، على امل ان يكون الوقت فى صالحنا ونتمكن من اخفاء السيارة فى منزلهم .. ولكن هيهات لم يكن احد بالمنزل ..وهنا تمكن الموتر من رؤيتنا بعد ان تجاوز الشارع غفل راجعا .. وبدات المطاردة من جديدا .. واصلنا هذه المرة بشارع المستشفى شرقا .. ثم يمينا بشارع (مايو) متجاوزين سجن مدنى العمومى ورئاسة جهاز الامن ... وبعد قليل ظهرت سيارة تايوتا بوكس اخرى بالاضافة الي الموتر ... فى حى مايو فؤجئنا بان الطريق مقفول امامنا تماما .. بواسطة سيارتى تايوتا (بوكس) ، ووقوف خمسة افراد فى منتصف الطريق . والسيارة البوكس والموتر يضيقان علينا .. اخذ مرتضى فى تخفيض السرعة , والسيارة تبطئ .. لاحظنا ان هنالك حفل فى احدى البيوت الفاتحة على الشارع ، فما كان من مرتضى الا ان انحرف فجأة وبسرعة نحو ( صيوان ) المناسبة ، تابعتنا السيارة البوكس والموتر سايكل وقفوا بجانب سيارتنا . كنا قد غادرناها مسرعين الى داخل ( الصيوان ) ، ترجل ثلاثة افراد للحاق بنا .. فنان يصدح .. حلقة رقيص (عجاجتا فوق ) .. هيئاتنا تدل على اننا ( الخطأ ) فى المكان الصحيح ؟؟ نتلفت ذات اليمن وذات اليسار .. ومرة حول نفسنا.. وبطرف العين.. نحاول نسرق الصورة الورانا ؟؟ . كانت كل امالنا معلقة على ان ( نعتر ) فى واحد من طلاب الجامعة .. عسي ان يتمكن من مساعدتنا.. ونستطيع ان نتدبر المخارجة . لسوء حظنا لم نجد اي من طلبة الجامعة او اي من المعارف فى تلك اللحظة .. نتحاور في ما بيننا ماذا نفعل .. وما هي الخطة .. واحد من افرد الامن يتحرك ناحيتنا ، حتى صار على مقربة ..وبكل غضب ، قال بيده هكذا ، أي ( اصبروا او انتظروا) ، وظل يكررها ، متى ما التفتنا ناحيته .؟؟. كنا نتكلم بصوت شوية عالى حتى نتمكن من سماع بعضنا البعض صوت الفنان وفرقته ومكبرات الصوت كانت صاخبة ومزعجة ؟؟ على كل حال .. ما ان يتحرك رجال الامن ناحيتنا .. ( نفج) طريقنا فى الزحام ( لي قدام) نحو الصفوف الامامية .. منظرنا لفت انتباه بعض الحضور ؟؟ فى لحظ محددة اتفقنا على ان نفترق فى محاولة لتشتيت افراد الامن ، واذا تمكنوا من اعتقال اي منا او كلنا .. اكدنا على ضرورة تنفيذ استراتيجية كيفية التعامل مع الاستجواب والتحقيق ومقاومته ... كنا قد تدربنا واعدينا انفسنا تمام الاعداد لتقبل هذا الاحتمال .
فى تلك اللحظة يظهر .. ملازم سجون ( يعمل فى سجن مدني ) نعرفه ، هو الشقيق الاصغر لزميلنا الطالب بكلية الطب ، وقد توثقت معرفتنا به ، بواسطة صديق مشترك ، زميله فى العمل ودفعته الملازم ( ود حلتنا من بحرى) ... يرقص مع مجموعة من الشابات .. فما كان مني الا ان تقدمت نحوه ..اندهش ، فاتحا عينيه بتساؤل ؟ ، لم اعطه فرصة سلمت عليه بالاحضان .. وهمست فى اذنه ، ناس الامن مطاردننا .. اجابني ، شايفهم ؟؟ ..تحدث الى الشابات بان يواصلن رقيصهن وان يبقين فى مكانهن حتى يرجع وذكرني بان اظل واقفا ونادى على مرتضي بيده ان يحضر .. واستاذن .. غاب لفترة قصيرة ثم رجع .. واثناء التظاهر بالرقيص .. اوضح لنا ان الخطة جاهزة .. وهي ان نتحرك الى داخل المنزل ( منزل اهل العروس وهم اقرباؤه ) ، سوف تقابلنا الحاجة فاطنة ، لتحدثنا بالتفاصيل .. وما علينا الا التنفيذ . واحد تلو الاخر ( انسللنا ) الى داخل المنزل .. قابلتنا الحاجة فاطنة بترحاب وعطف كبير.. يا اولادي اكلو حاجة .. شكلكم ( جعانيين ).. رغم الحاحها الا اننا شكرناها معتذرين ان علينا الذهاب...الحقيقة كنا جياعا ، فلم نذق طعاما خلال اليوم .. ما عدا شاي الصباح ، والقيمات .. الذى تناولناه فى منزل زميلنا وصديقنا ، عبدالعظيم عبدالغني ( خريج الدفعة الاولى زراعة ) فى حي مائة واربعطاشر ، حي العمال الشوامخ ، حيث قضينا ليلتنا السابقة . على كل، فى تلك اللحظات لم نكن نفكر فى الاكل بقدر ما كنا نريد ان نعرف منها الخطة كما ذكر صديقنا (ملازم السجون ) ... وبالفعل وضحت لنا بعد ان اجلستنا على ( بنابر ) بالقرب من الطباخين والحلل والقدور الكبيرة ؟؟ .. اولا علينا ان ( ننط الحيطة دى لبيت الجيران ، ما تخافوا حاج عثمان عارف ، ومن هناك هو بيفتح ليكم الباب .. اجروا على يدكم اليمين لحدي نهاية الشارع برضوا لفوا يمين .. وبعدين يمين .. البيت الثالث الفاتح على الشارع الرئيسي .. يعنى فى نفس شارعنا ده .. ده ميز ضباط السجون .. ادخلوا بتلقوا مضمون اسموا ادم .. قولوا ليهو دايرين اوضة ( النقيب صلاح ) ، وهاكم ده المفتاح الاداني ليهو صاحبكم ( ملازم السجن ) .. )
( نطينا ) الحيطة ، حاولن بعض النسوة الموجودات فى الحوش .. الصياح او الصراخ لكنها ( قمعتهن وزجرتهن ) .. اسكتن؟؟ . حاج عثمان استقبلنا فى الجانب الاخر من الحيطة بتجهيز طربيزة حديد ننزل عليها من علو الحائط .. شجعنا بكلام طيب ، ودعاء الله بنجاح نضالنا فى ازالة حكم الطغاة .. ثم فتح لينا الباب ، واعاد وصف خارطة الطريق الى بيت ميز ضباط السجون ... وخرجنا .. واحدا .. بعد دقائق الاخر .. وصلنا الى الميز .. وجدنا ( المضمون ) ادم .. فتحنا غرفة النقيب صلاح ، دخلنا وقفل الباب .. اخبرنا بانه حارسنا ، تنفيذا لتعليمات الملازم . ولن يسمح الى اي شخص بدخول (الاوضة ) .. كانت الساعة الثانية صباحا ... لم نتحدث الى بعضنا اكثر من خمس دقائق تقريبا .. لنفيق فجأة على صوت طرق على باب الغرفة .. فتحت الباب اذا هو صديقنا ( ملازم السجن ) ، والساعة تقريبا حوالى الثالثة وخمسة واربعون دقيقة ... يحمل معه بعض طعام من طرف حاجة فاطنة .. طعمية ، لحمة ، رغيف ، وفطائر .. حدثنا بان الحفلة انتهت منذ قليل ... ( وان ناس الامن بعد ما قنعوا منكم .. حارسين العربية .. معتقلنها عديل ..) كما قال.. وطلب من مرتضى ان يعطيه المفتاح ، عسى ان يتمكن من تدبير وسيلة ، او يخدمه الحظ لاخذ السيارة .. حذرنا بان ( حدوا معانا الساعة خمسة ).. ثم غفل راجعا من حيث اتى ... تفاكرنا فى كل السناريوهات المحتملة .. وكنا قلقين على مصير سيارة البروفسير كشومة ، خاصة مرتضى كان الاكثر قلقا وانزعاجا ، وظل يردد ان هذه امانة ولازم تسلم الى صاحبها فى الاول .. واذا كان فى قبض ، احسن يقبضونا نحن بس العربية ترجع للبروف... وانه حيطلع ويمشي للجماعة ديل .. ويحصل ما يحصل .. وبينما نحن فى هذه النقاشات ..عاد صديقنا ( ملازم السجن ) حوالى الساعة الخامسة والربع .. وهو يبتسم قال خلاص فرجت .. بصوت واحد ردينا .. ادوك العربية .. اجاب .. لا ما قدرت اشيلها ... لكن عرفت من الضابط النبطشي فى السجن حاجات كويس ، اول حاجة جماعتكم القبضوهم امس جابوهم السجن ولموهم مع المعتقليين السياسيين التانيين .. وده خبر كويس جدا لانو لو خلوهم لناس الامن كان بعذبوهم ( وبالفعل فقد تم تعذيبهم هناك كما عرفنا لاحقا ).. الحاجة التانية انو ناس الامن رفعوا ليهم الاستعداد اكثر من مائة فى المائة !! تسالنا كيف ؟ اجاب ، لما يرفعوا الاستعداد لدرجاته القصوى ما فى اذن لاي زول .. ولازم كل القوة تكون فى الخدمة ، ويشكلوا حضور فى طابور التمام الساعة السادسة .. وده معناتو الجماعة الحارسين العربية لازم يرجعوا لرئاسة الامن... يبقى لازم ارجع اراقبهم وفى اللحظة البنصرفوا فيها بجيب العربية واجيكم بعدها تتخارجوا ودبروا امركم .. اتفقنا على كده ..
عاد (ملازم السجن ) يقود سيارة البرف.. فى حوالى الساعة الخامسة واربعون دقيقة ... ودعناه وشكرناه بحرارة .. ونحن نستعد لمغادرة المكان .. حذرنا مرة اخرى من ان لا نحتفظ بالسيارة لمدة طويلة .. ويجب التخلص منها باسرع فرصة... تشاورنا فى امرنا ووجدنا ان اسرع طريقة هي ان نذهب الى منزل صديقنا عبدالله عكود الطالب بالجامعة كلية العلوم والتكنولوجيا ... فى الطريق ناقشنا بعض البدائل ...في النهاية تمكنا من الوصول الى منزل المرحوم الدكتور حسن حسين النعيم مدير مستشفي الصدرية السابق ... فى الحي السوداني وجدنا ابنه خالد الطالب بكلية الهندسة جامعة الخرطوم ، وبالفعل اخفينا سيارة البروف داخل منزلهم ، ووفر لنا خالد سيارة اخرى ، وقبل ان نتحرك حضر الدكتور حسن حسين من خارج المنزل ممسكا راديو ، خاطبنا ، انتو ما شين وين .. اجبنا ، للمشاركة فى المظاهرة التى اعددنا لها لتكون هذا الصباح .. قال تعالوا اقعدوا اسمعوا الكلام ده... موسيقى مارشات عسكرية تنطلق من الراديو .. ومذيع يعلن للمستمعين الكرام ، بان القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة سوف تذيع عليكم بيانا هاما بعد قليل .. فترقبوه؟؟ خيم صمت مطبق على مجلسنا ما عدى صوت المارشات العسكرية .. التى يقطعها صوت المذيع ... يطلب منا ترقب البيان الهام بعد قليل ..؟؟ استمر الحال وعيوننا مسمرة على الراديو كاننا نشاهد تلفزيونا ... واذا بالمشير عبدالرحمن حسن سوار الذهب يعلن انحياز قوات شعبنا المسلحة الى الجماهير .. استيلاء القوات المسلحة على السلطة .؟؟ واطلاق سراح عربية كشومة ؟؟ .. فجأة ينتهي كل شي .. انهارت قلاع الديكتاورية فى لحظات ...وهذه كانت لحظة بداية ونهاية ... بداية عهد جديد، ونهاية عهد بغيض . يا لها من اربع وعشرون ساعة .
البروفسير عثمان علي سيداحمد ( كشومة ) هو سنام فخرنا وهذه احدى مآثره التى اكرمه الله بها .
نترحم على ارواح الذين فارقوا هذه الفانية الى دار البقاء ، من قيادات التجمع النقابي فى مدني .. الدكتور محمد فراج ،رئيس نقابة الاطباء ، الدكتور مدني احمد عيسي ، سكرتير نقابة الاطباء، السيد عبدالمنعم رحمة رئيس نقابة العاملين بمصنع نسيج النيل الازرق ، الدكتور محمد نورالدين حسين المحاضر بكلية الاقتصاد ( الحزب الناصرى) ، البروفسير صلاح طه المحاضر بكلية الطب ( نقابة الاساتذة) ..المهندس عبدالحفيظ النور ، والمهندس عادل سليمان اللهم ارحمهم نزلهم فسيح جناتك .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.