الدعوة التي اطلقها الدكتور غازي صلاح الدين العتباني (( رئيس حركة الإصلاح الآن)) بدمج الأحزاب السياسية في حزبين او ثلاثة أحزاب كبيرة تتداول السلطة سلميا وتحافظ علي الرية والديمقراطية هي دعوة متقدمة وبناءة وقد جاءت الدعوة للإندماج ضمن الحوار الوطني بحيث تتواضع الأحزاب كلها علي نبذ العنف ووقف الحرب والإحتكام للشعب عبر صناديق الإنتخابات من خلال كيانات حزبية قوية تستطيع ان تطرح برامج وتقدم رؤي . وقد خاطبت دعوة الدكتور عتباني الواقع السوداني مباشرة بكل مكوناته فالإسلاميون يمكن لهم أن يجتمعوا في حزب واحد وكذا الحال بالنسبة لليساريين والعلمانيين وبرزت دعاوي اهل القبلة والنظام الخالف الذي تمت نسبته للشيخ الدكتور حسن الترابي عليه رحمة الله وغيرها من الصيغ التي تحتاج لشئ من التكييف السياسي حتي تؤدي لمحصلة واحدة . وتأتي دعوة الدكتور غازي صلاح الدين وهي أيضا تخاطب الواقع السياسي في الحكومة والمعارضة ووهذا الواقع يعاني من إنقسامات وتباينات غير حقيقية فالحزبان الكبيران الأمة والإتحادي هما في الأصل حزب واحد يعود بأصله لمؤتمر الخريجين (( 1918)) وقد إنقسم الحزب بين دعاة الإستقلال ودعاة الوحدة مع مصر وعادا ليتفقا حول إستقلال السودان في العام 1956م .وكذا الحال بالنسبة لبقية القوي السياسية المنقسمة علي نفسها من غير مبرر كافي لهذا الإنقسام وما نشهده اليوم هو تعبير حقيقي عن توفر كافة عوامل الوحدة والإندماج ولكن العنصر الغايب هو عنصر الإرادة السياسية والحالة التي تعيشها الساحة السياسية الآن يمكن وصفها بالمثل السوداني الذي يقول كل زول بعجبو الصارو ومن غريب أن هذا المثل والذي يخاطب قول الله عز وجل (( كل حزب بما لديهم فرحون )) يفسره البعض ليؤكد علي سلامة موقفه وما ينطوي عيه من أفكار في حين هذا المثل هو في الأساس يعيب علي الناس عدم إنفتاحهم علي بعضهم البعض وإصرارهم علي الخلاف والإنكفاء والتشرذم . وإذا قمنا بتشخيص الواقع السياسي من خلال إشارات محدوده فإن النتيجة التي سوف نخرج بها ستكون هي الإحباط والقنوط والذعر مما نحن فيه وتأثيره علي حاضرنا ومستقبلنا بعدأن هزم ماضينا وألقاه أرضا ثم جسم عليه بركبتيه . فلننظر إلي للوحدة لدي الجميع الإسلاميين يزينون مؤتمراتهم بقول الله تعالي (( وأعتصموا بحل الله جميعا ولا تفرقوا وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا )) نجدهم اليوم جماعات واحزاب كل حزب يكيد للآخر ويبتعد عنه بعد المشرقين والمغربين . وإذا نظرنا لليساريين الذين تقول شعاراتهم الثورية (( يا عمال العالم إتحدوا ويا شعوب الأرض توحدوا )) ولكنهم الآن مراكز قوي وشراذم حتي داخل الحزب الواحد فالحزب الشيوعي السوداني وهو أكبر حزب يساري به مجموعات متعددة مثل مجموعة الشفيع خضر وغيرها وكذا البعثيين الذين ينادون بوحدة الأمة العربية من المحيط إلي الخليج ولكنهم احزاب للبعث لا حصر لها منها العربي ومنها العربي الإشتراكي ومنهم الموالين للبعث السوري والموالين للبعث في العراق . أما حزب الأمة فقد إنقسم علي نفسه لما يعرف اليوم بأحزاب الأمة من شاكلة نهار ومسار والهادي ومبارك وصار الصراع علي الأسماء داخل البيت الواحد كما يحدث بين دكتور الصادق الهادي المهدي وخاله مبارك عبد الله الفاضل حول إسم حزب الأمة الذي ترقي منه الإمام الصادق إلي حزب الأمة القومي . والحزب الإتحادي الديمقراطي الذي مزقه الصراع بين الختمية والإتحاديين وآل الأزهري وآل الهندي وآخر مظاهره أن أعلن مؤتمر أم دوم الإسبوع الماضي الإطاحة بالسيد محمد عثمان الميرغني من رئاسة الحزب وإعلان الأستاذ علي محمود حسين الذي يعمل بقاعدة كل من يعمل مع نظام شمولي لم يعد إتحاديا . ولم تقتصر الإنقسامات علي الأحزاب السياسية بل حتي حركات دارفور التي بدات بحركة او حركتين وصارت اليوم أكثر من أهل دارفور انفسهم والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال التي إنقسمت ما بين ياسر عرمان ومالك عقار من جهة وعبد العزيز الحلو من جهة . والسبب في كل هذه الإنقسامات والتشرذمات هو غياب الحوار داخل الأحزاب السياسية نفسها وما بين الأحزاب السياسية بعضها البعض وهناك قادة قادة الأحزاب الذين يعتبرون الرأي الاخر داخل الحزب خروج علي المؤسسية والمؤسسية في نظرهم تتمركز حول رئيس الحزب الذي ليس في مقدوره الإستماع لأراء عضوية الحزب الذين صاروا كومبارس يهتفون بحياة زعيم الحزب ويوالونه فقادة الأحزاب عندنا هم آخر من يضحي وأول من يستفيد وقد ظهر في حكومة الوفاق الوطني والصراع علي السلطة داخل الأحزاب المشاركة في الحوار التي صار قادتها بلا إستثناء وزراء ومساعدين لرئيس الجمهورية وهؤلاء لا يجتمعون علي شئ مع بعضهم البعض ولو علي طريقة لقاء السيدين الشهير في السودان (( المهدي والميرغني )) والذي كان الناس ينتظرونه بفارغ الصبر لكي يحل المشاكل السياسية والتنفيذية . هذا الواقع لا يمنع المحاولات المخلصة من جانب الدكتور غازي صلاح الدين للعمل بفكرة دمج القوي السياسية بل علي العكس فإن قراءة الواقع تخدم فكرة الإندماج التي يجب ان تطرح علي نطاق واسع وتتحقق الوحدة الإندماجية بين القوي السياسية القائمة علي المبادي وليس علي المحاصصات والمصالح ويتطلب هذا أن يلتقي قادة الأحزاب ليعبروا عن رغبتهم في الإندماج ولو من باب الشراكة الذكية وفن الممكن واللعب علي الأرقام الصعبة والكبيرة بدلا عن الكيانات الصغيرة المصنوعة من أجل أهداف سياسية قصيرة النظر في بلد مل شعبه العبث السياسي منذ الإستقلال وإلي يومنا هذا .