لاحظتُ، بل كادت الملاحظةُ أن تصْرعَني، أن معظم اللغات وبالأخص اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فإن أساس الكلام فيها ينبني علي قالب الفعل الحاضر، زي بريزانت سيمبل في الإنجليزية.. والفرنسية تسميه لو بريزا.. وتشتق من فعل الحاضر أو البريزنت، كلُّ المشتقات اللغوية الأخرى كالأفعال بأزمنتها المتعددة، الماضي والحاضر المستمر، والإفتراضي، والمستقبل، والأفعال الشرطية .أسوةً بالصفات، وأسماء الأفعال.. والمصادر.. وأسماء الفاعل.. . ذلك خلاف ما عليه الحال في اللغة العربية.. فاللغة العربية تنبني جميعها علي بنية الفعل الماضي.. وهو يأتي على صيغة (فَعَلَ) بفتح الفاء والعين واللام.. وتتطور بموجب الإشتقاق من قالب الفعل الماضي، كل الأفعال الأخرى ذات الأزمنة المغايرة، فعل يفعل فهو فاعلٌ فعولٌ وفعّالاً ومفعول ومنفعل ومتفاعل .. أسماء الأفعال والصفات، وإسم الفاعل والمصدر والحال.. وذلك كله إشتقاقا من بنية حتمية هي هيئة الفعل الماضي دون سواها.! . فإنك تقول في العربية على سبيل المثال، أكل الرجل، يأكلُ الرجلُ للمضارع، أتى الرجل الآكل، تدليلاً على إسم الفاعل، والأكَّال، بتشديد الكاف، تدليلا على صيغة المبالغة، ورجلً آكلً وأكول للصفة.. وتحدّث الرجل آكلاً بالتنوين للتدليل على الحال.. وتقول مات الرجل، يموت، موتاً، فهو ميت بفعل الموت. . كما ان نصف ما يكتب بالعربية تسبقه (كان) كعبارة سائدة ومحببةٍ في الصحف والكتب والحكاوى والأخبار وقَصَصِ الصغار والناشئين.. وتُعَرِّفُهَا العربيةُ بأنّها فعلُ ماضٍ ناقص.. وبالتالي يتوجب تمييزها بالنقصان عن غيرها من أفعال الماضي، لأن الماضي في إطلاقه، عند العربي، إنما ينزع للكمال. لدى العرب دون سواهم من المِلَلِ، فإن دالةَ الحكمة والوعي تتناسب عكسيا مع متغير الزمن.. . ليس ذلك فحسب.. بل أن كل القوالب والبنيات الموسيقيّة، والتي كوَّن منها سيدي الخليل بن أحمد منْظومةَ أوزان الشعرِ العربيِّ الفصيح.. قد انبنت هي نفسُها على هيكل الفعل الماضي (فعل) بفتح الفاء والعين.. فجميع أوزان وبحار الشعر العربيّ الفصيح إنما تتشكل قوالبها من (فَعَلَ). بحرُ الكامل، وبحرُ الطويل والرجز.. أذكر منهاعلى سبيل المثال لا الحصر: متفاعلن فعولن متفاعلن فعولن متفاعلن فعولن... متفاعلن فعولن متفاعلن فعولن متفاعلن فعولن ومنها أيضا: متفاعلن متفاعلن متفاعلن.... متفاعلن متفاعلن متفاعلن وخلافها مما لا يحضرني هنا ذكره، فلست أجيدها كما ينبغي، من القواعد التي أصبحت حتى اليوم، مرجعية بنيوية حتمية، للحكم الشكليّ علي النَظْمِ، (بسكون الظاء)، إذا ما كان له أن ينتمي شكلياً، للشعر العربي أو لم يكن.. غض النظر عن تماهيه واتساقه في جوهره ومراميه. . فكلما تضاعف مُتغيرُ الزمنِ وبالتالي الكم المعرفيّ، أي أسرفَ في الحداثةِ إقترابا من الحاضر، تناقصت عند العرب فيه إعتبارات الحكمة والوعي، وقل إتعاظهم به وإعترافهم له. وكلما تناقص متغير الزمن، سعيا إلي الوراء عكس عقارب الساعة، وانحدر آيلا إلى الصفر في إتجاه القرون الأولى، تضاعف ذلك المكون لديهم.. وزادَ ولَعُهم به، وصادف منهم هوى. . على الأقل وفقاً لمفهومِ العربي.. فإن تراكم المعرفة.. والذي هو بطبيعة الحال يُفترضُ أن يتزايد فيه المتغير مع الزمن، فإنه هنا يعملُ بصفةٍ إسترجاعية أو عكسية.. أي أن الوعي عند العرب إرتدادي، يتناقصُ عند تراكم التجربة والمعرفة وتعاظمهما.. ويتزايد في تلاشيهما.. حتى ليبلغ أقصى حالاته وأقدسها، عند الصفر أو عند نقطة العدم. . هل يا تُرى أن ذلك التميّز قد أتى مصادفة ليميز اللغة العربية عما سواها، في أن تتأسس مجاميعها علي بنية الفعل الماضي ؟.. أم أن ذلك أتى إنما إنبعث إتساقا لنهج العرب في التزام الماضوية سقفا في كل شئ.. في التقليد واللغة والإبداع، وفي قوالب الشعر، والتدين والتشريع..؟! . يبدو أن العرب قد إجتهدت في تقسيم الزمن قسطاطين.. ليصبح الماضي من نصيب الله، بينما تركت العرب الحاضر كحدائق ليلهو فيها الشيطان. . إنتهي . http://nagibabiker.blogspot.com عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.