أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكرى الاستقلال بين ثقافة الهزيمة وفرضية الإنتصار : قراءة تحليلية لإسقاطات الهزيمة بإنتلجنسيا المنفي .. بقلم: محمد المصطفى موسى
نشر في سودانيل يوم 31 - 12 - 2017

تيار الهزيمة بإنتلجنسيا المنافي .. تعبير يمكن أن يُعمم ليحتوي بين دفتيه أشتات متباينة من سودانيي الضيم الذين أجبرهم نير نظام الانقاذ وعسفه على الهجرة الجماعية من أرض الوطن و اختيار الأصقاع البعيدة كملاذ آمن أو أوطان بديلة ولو إلى حين. بيد أن من ينشد تعريفاً أكثر دقة لتلك المجموعات لن ينكر إمتداداتها المحلية العميقة في سودان اليوم عطفاً على تسّيد وسائل التواصل الإجتماعي لمسرح الأحداث ومقدرتها الخارقة على غزو قناعات الناس ودك حصونها ببأسها الذي لا يُرد . وقد نزعم بصدق أن بروز الإنترنت كوسيلة اتصالات أساسية في اوخر التسعينات .. أسهم إسهاماً فعالاً في تشكيل ملامح الوعي المعرفي لتلك المجموعات . تلك الملامح التي تشكلت بعد المرور بمراحل مخاض كثيرة .. تلاقحت فيها رؤى وأفكار متعددة نمت في تربة خصبة من الإحباط حتى صارت ذات الأفكار موروثاً فكرياً وثقافياً تتوارثه الأجيال المتعاقبة لذلك التيار النخبوي على مستوى الداخل و من قبل ذلك على مستوى المنفي الذي تعاقبت دورات المشتتين فيه تماهياً مع ما أضحى يُعرف إصطلاحاً في ادبيات علم الاجتماع الحديث بإسم ال Diaspora.
وغني عن القول أن ذكرى الاستقلال صارت عند جل تلك الانتلجنسيا مدعاة للإنتحاب بحرقة على حائط التاريخ .. ومهرجانات للتباري في إظهار الحسرة والندم على خروج المستعمر البريطاني الذي استعجل السودانيون وتجنوا على أنفسهم حينما أرادوا ان يجعلوا لهم وطناً بين الامم . ثم تتعالى الأصوات هنا وهناك بحماسة مفعمة بالهوس عن عدالة المستعمر وسماحته التي حملته على أن يشيد صروحاً ومؤسسات عملاقة كجامعة الخرطوم ومشروع الجزيرة و لن تنتهي تلك القائمة الطويلة ما لم تشمل الترماج وضباط الصحة الذين اتى بهم المفتش برمبل و قد يعرج البعض للحديث عن الفندق الكبير وشارع النيل الذي سيتحسر الكثيرون على شجر اللبخ الذي أتى به الانجليز من الهند ليزين ويظلل جنباته .. بينما اعتدت عليه الحكومات الوطنية بجورها فأعملت فيه الفأس كما اعملته في ذلك الوطن الممزق الأشلاء فمزقه إربا ! .. هكذا تندفع مشاعر متباينة يتم إستدرارها من مكامنها إستدراراً سنوياً منظماً على وقع لحن خافت موغل في الحزن سيعُزف مع مطلع كل عام بسلمه الموسيقي الذي يلامس شغاف القلوب كما الناي الباكي الذي ليس لمثله سطوة .
حسناً .. لعل 29 سنة من استمرار نظام الانقاذ جاثماً على صدور السودانيين قد ولدت تلك الحالة الوجدانية السالبة لدي البعض من انتلجنسيا المنافي والتي تعبر في مجملها عن روح انكسار معنوي قاتل تولد نتيجة سنوات طوال من الترقب والانتظار لزوال ذلك الكابوس الذي ألم بالوطن في فجر 30 يونيو 1989 .. وهي حالة نفسية يمكن تفهم طبيعة الظروف التاريخية والموضوعية التي أسهمت في التأسيس لها والتصالح مع دوافعها .. ولكن بالمقابل الموضوعي يظل استمرار تلك الحالة مناقضاً لإعمال العقل والفكر كوسيلة للتحليل المادي لحقائق الأشياء بعيداً عن القراءة الوردية لوقائع التاريخ . لعل الكثير من هؤلاء لا يذكر ان المستعمر الانجليزي لم يكن بذلك المستوى الحالم من العدالة التي يتوهمونها.. بدءاً من دوافعه حينما تقادمت جيوشه لاحتلال السودان في 1898 و فقد كانت صحف التايمز تكتب باستمرار عن ضرورة الإنتقام لغردون وستيوارت وهكس .. فكيف يأتيك بعدالة من كان دافعه الانتقام ؟ ثم يتناسون أن كتشنر قائد جيش الاستعمار نفسه قد جابهه الانجليز اهل العدالة المزعومة بتهم الإبادة الجماعية للسودانيين حينما لقبه اللورد ريتشار ريدموند في مداولات مجلس العموم البريطاني .. بجزار امدرمان Butcher of Omdurman .. كما تحدث المراسل الحربي في معركة كرري ورئيس بريطانيا لاحقاً ونستون تشرتشل عن تلك الاحداث في كتابه " حرب النهر " قائلاً : " لقد تلطخ انتصارنا على السودانيين في ام درمان بعار المذابح اللإنسانية التي ارتكبها جنودنا في أسراهم " تلك المذابح التي علق عليها كتشنر بلا مبالاة وتستهين ايما استهانة بإنسانية الانسان .. حين قال : " ! What a waste of ammunition " . كل ذلك حمل الكثيرين على الجهر بحقيقة التكلفة الانسانية الباهظة التي دفعها الشعب البريطاني نظير الإنتقام لغردون والتي فاقت في مجملها بحسب مداولات مجلس العموم البريطاني آنذاك ال 350 الف نفس بشرية سودانية .. وهو رقم يقارب ذلك الرقم الذي أزهقه نظام الانقاذ من أرواح السودانيين في دارفور المنكوبة اليوم !
إن الذاكرة الجماعية للسودانيين تضج بمخزون قصصي متوارث حافل بانتهاكات بالغة لحقوق إنسان السودان يندى لها جبين الانسانية .. قام بها البريطانيون في السودان فكان الإعدام والتصفية الجسدية مصير كل من سولت له نفسه تقمص حالة من الحرية بعيداً عن حكمهم .. فقامت السلطات الاستعمارية بإخضاع السودانيين بقوة السلاح قمعاً لأي أنفاس تتردد في الصدور .. فكانت مجزرة الشكابة في 1899 التي اشعلتها قوات المستر سميث مفتش سنار البريطاني وجنوده . تلك الإبادة الجماعية التي شهدت رمي الضحايا بالرصاص و إثقال جثثهم بالحجارة و من ثم إغراقها بالنيل الأزرق حتى لا يعثر لهم على قبر . مجزرة مروعة جُرح فيها طفل كان في الثانية عشر من عمره فنزف كتفه حتى شارف على الموت فحملته والدته -و هو يرى مصرع اخوته أمامه- إلى الجند البريطانيين مطالبة إياهم بان يلحقوه بإخوته في النهر الذي قُذفت به جثامينهم .. وقبع طفلٌ اخر بتسمرٍ عاجز يرقب "سميث " وهو يدفع بجثة ابيه الخليفة محمد شريف إلى النيل الأزرق بعدما سمعه يردد و هو موثوق بالحبال مع رجاله واتباعه قبل أن يخترق صدورهم رصاص الإنجليز .. سمعهم يرددون في ثبات " انا للموت صابرون.. انا للموت صابرون " . تلك المجزرة التي اخرجت من رحم أهوالها رائد الصحافة السودانية الأستاذ حسين شريف بعدما أخطأه رصاص البريطانيين على غير عمد بمثل ما أخطأ خاله السيد عبدالرحمن المهدي الذي نجا- كما سبق الوصف - بأعجوبة من رصاصهم بعد أن تزين كتفه الأيمن بندبات جرح غائر. وبلغ الفتيان مبالغ الرجال و صدعا بشعار السودان للسودانيين قبل ما يقارب الثلاثين عاماً من تحقق الإستقلال .. فلما قضي حسين شريف دون أن يبلغ نهاية العقد الثالث من عمره بعد .. مشى السيد عبدالرحمن على جمر المطاردة والتضييق الذي نثره الانجليز تحت قدميه فناور و راوغ المستعمر وأشهر في وجهه درع التقية وقلبه مطمئنٌ بالإيمان .. فحقن دماء من معه وبذل ماله وجهده وما تزحزح عن شعار " السودان للسودانيين " قيد أنملة .. وكان مع خصومه كما قال عنه الراحل يحي الفضلي : " كالشجرة التي نرميها بالحجارة .. وترمينا هي بالثمر " .. حتى انتصب علم التحرير على السارية بساعدي الزعيم الازهري والمحجوب .. وعندها إنتحب بدمع النصر وهو الذي "لم يكن قبل اليوم ينتحبُ " .. كما وصفه المحجوب .. ولكن انتلجنسيا الهزيمة التي لا تود سوى أَن تذرف الدمع السخين على المُستَرِق الذي لا حياة للإرقاء بعد ذهابه .. سوف لن تستنكف عن الإنغماس في ثقافة تبخيس عطاء الرجال حتى و لو لم يكلفها ذلك سوى كبسة زر في عالم الأسافير بأصابع ليس من ورائها سوى القليل من أنصاف الحقائق .. والكثير من المغالطات المنهجية الموغلة في العمق والسذاجة معاً !
وعندما تحدثك الانتلجنسيا المنهزمة عن فضائل الانجليز .. فإنها ستغض الطرف بالضرورة عن الآلة الحربية الانجليزية التي سعت لإخماد اي صوت يتعارض مع استتباب امر السودان لهم .. فكان إعدام ود حبوبة ورفاقه في قرية مصطفي بالحلاويين قبل إنتصاف العام 1908 وأعقب ذلك إعدام محمد السيد حامد و رفاقه في ثورة سنجة 1919.. وأبيد الآلاف من اهلنا في جبال النوبة وأُعدم السلطان عجبنا في العقد الاول من القرن العشرين .. وبطش الانجليز بعلي الميراوي والمئات من اتباعه في جبال النوبة أيضاً فأعدموه رمياً بالرصاص كما أرسلوا جيوشهم لإخضاع السلطان علي دينار فأبادوا الآلاف معه إلى ان قتلوه .. ولم يُبْقُوا لنا من إرثه العظيم سوى القليل من الأساطير الساذجة كتلك التي تتحدث عن أطفاله الذين يغتالهم بيد " الفندك" بكل صباح .. فتلقفت ذلك أفواه الإنتلجنسيا التي تتحرق شوقاً لثقافة الهزيمة وما يمكن أن يغذيها من أساطير .. لتملأ بها الأمكنة وتشغل بها الناس .. دون أن تذكر شيئاً عن تعقب الإنجليز للفور ومن حالفهم من القبائل قتلاً و تنكيلاً حتى أصبحوا بلا سلطة في تلك الدار المسماة بإسمهم .. ولكن كل ذلك لن يكون كافياً لزحزحة الانتلجنسيا عن اعتقادها الراسخ الذي يصل إلى مرتبة الإيمان العقائدي العميق بعدالة المستعمر المقترنة برقة قلبه ومبدئية قضيته وليس مبدئية قضية الذين تصدوا له !
ثمة مفارقات كثيرة ستسعى إنتلجنسيا الهزيمة لتجاوزها بعينين مغمضتين .. ومن بينها حقيقة مفادها أن السلطة الإستعمارية كانت الأسرع إلى قمع اي عمل قام به منسوبو المؤسسات التي تم انشاؤها حتى تخدم أغراضهم .. فثورة اللواء الابيض في العام 1924 لم تكن في حقيقتها الا نتاج تحالف عريض قام به سودانيون وطنيون يَرَوْن للسودان مصيراً مشتركاً مع مصر ومهما اختلف تقييم البعض لتلك الأهداف فلن يجترئ عاقل على تجريدهم من وطنيتهم وقفتهم الباسلة ضد القوى الإستعمارية الانجليزية تحديداً . فخرج هؤلاء من ذات المؤسسات المار ذكرها وفيهم ثريات لألأة تعامت عنهم أعين الانتلجنسيا الموغلة في تجاهل الرجال و إستسهال عطاءهم من اجل الوطن ونذكر من هؤلاء .. الشهيد عبدالفضيل الماظ و اليوزباشي الباسل علي عبداللطيف من المؤسسة العسكرية .. الاميرلاي عبدالله خليل .. اليوزباشي محمد المهدي الخليفة عبدالله .. جنباً إلى جنب مع عبيد حاج النور وخليل فرح . تلك الملحمة التي قُتل من قُتِل ونُفي من نُفي حتى حسب البعض أن في بعض هؤلاء مس من جنة .. ولكن البعض لا ينفك عن ان يحدثنا عن سيرة الانجليز الذي عدلوا فأمنوا فناموا .. وكأنما تلك الاحداث جرت في بلد اخر غير الذي نعرفه !
و لم يكن جنوح القوى الوطنية للعمل المدني من خلال مؤتمر الخريجين بمنأى عن سخط السلطات الاستعمارية ولم تكن زنازينهم خالية من المعتقلين السياسيين كما يتوهم البعض.. وقد خبر تلك الزنازين وعرفها الزعيم اسماعيل الازهري و الاستاذ محمد احمد المحجوب والأميرلاي عبدالله خليل وأحمد السيد حمد وغيرهم من الرجال الذين لن يذكر نضالهم احد من انتلجنسيا الهزيمة اليوم ولن يقولوا كلمة إنصاف واحدة في حق الأزهري الذي مضى لربه عفيفاً بعدما شاد بيته بدينٍ آجل ما زالت بعض وثائقه باقية لتشهد على نظافة كف الرجل . لن يذكر ذلك أحد ، بل عوضاً عن ذلك قد يتناقل البعض منهم في سطحية مثيرة للتندر ان إستقلال السودان لم يأت به نضال القوي السياسية الوطنية وإنما كان نتاجاً لثورة الشباب الانجليزي في لندن والذي أرغم حكومته على منح السودان استقلاله ! .. أو لأن الاستقلال أتى كعطية مزين من البريطانيين الذين قرروا ان يخرجوا من كل مستعمراتهم بحلول منتصف الخمسينات.. وقد يتجاهل ذلك العبقري الذي يأتيك بتلك الأعاجيب .. حقيقة ان بريطانيا ظلت موجودة في بلد مثل زمبابوي مثلاً إلى بداية الثمانينات من القرن السابق .. او في بلد اخر يقبع في أقاصي أسيا مثل بروناي حتى ما قارب منتصف الثمانينيّات .. تلك الحقائق المزلزلة ما زال التيار الانهزامي يتصفحها في كل يوم بعقل غائب مشوش يتناسب تماماً مع التركيبة الذهنية التي تؤمن بنُبل الانسان الأبيض و دوافعه الانسانية التي تسوق لماضيه الاستعماري الناصع.. وهي ذات التركيبة الذهنية التي تسُدل ستاراً كثيفاً على نضالات القوى الوطنية التي تقاطعت جهودها واتفقت نحو الاستقلال ! ومجدداً نتسأل هنا هل غيبة الوعي .. تلك التي تدفع البعض للخنوع والتسليم بهذه الأفكار أولاً ..ومن ثم " دق الطار " لها بحماسة "المداح" .. أو إن شئت ان تكون أكثر دقة فلتقل " بشتارتهم" أحياناً .. ؟
ولكن حالة غيبة الوعي عندما تتقمص النخب تجعلهم كمجموعة من الأفراد الذين تم تنويمهم مغناطيساً .. وتترك في وجدانهم جرحاً من الإنهزام النفسي لا يبرأ ولا يندمل أبداً .. فتراهم يتوكأون على عصا بالية لغزو رحاب التاريخ حتى تعم تلك النظرة الظلامية لحقائق الأشياء ..تشكيكاً في كل حقيقة لا تقبل الجدال .. وفي سبيل ذلك سيخبرنا الكثيرون عن أن أي معلومة تشير إلى أن السلطان علي دينار كان يكسو الكعبة بكل عام ما هي الا واحدة من أحابيل السودانيين الذين يجيدون تزوير الحقائق لصالحهم .. وفي ذات الشأن قد ينبري لك أحدهم بحماسة عجيبة للتأكيد على أن آبار "علي " حول المدينة المنورة قد سميت تيمناً بعلي بن ابي طالب رضي الله عنه وليس لها صلة بعلي دينار - الذي إحتفرها في حقيقة الأمر بماله لسقيا الحجيج والمعتمرين- ثم لا يفوته أن يؤكد في نهاية نسخته من الرواية على أن سمة السودانيين الأساسية هي أنهم قوم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .. !
ولعل الكسل المعرفي هو السمة الأبرز لتلك الانتلجنسيا التي تتناقل المعلومات من دون تحقق ..وبالأخص تلك المعلومات التي تقلل من إرث و موروث شعبهم .. فقد يفاجئك أحدهم في حبورٍ بالغ عن أن كل الدلائل تشير إلى أن ود حبوبة لم يكن ثائراً ولا بطلاً مقاوماً للاستعمار .. بل على الأرجح انه كان على خلاف مع أخيه في نزاع حول قطعة أرض تافهة الثمن ولذلك قام " بعمليته الانتحارية" تلك .. يتحدث اليك بلهجة الواثق من صحة مصادره حتى و لو لم يسمع بأن سلاطين المفتش العام لحكومة الإستعمار الإنجليزي قد ذُعر حينما علم بأنه يمكن أن يفلت أحد رفاق ود حبوبة من الإعدام فهدد بالاستقالة اذا لم يعدموا أجمعين .. وهو لا يدرك أن ونجت - مسئول المخابرات البريطانية وحاكم عام السودان فيما بعد - قد عَنْوَن تقريره عن ذات الثورة بأنها كانت اكبر تحدي واجهته السلطة الاستعمارية في السودان.. ولكن انتلجنسيا الهزيمة سيُقعدها ذهنها الجماعي عن إدراك كل ماسبق بفعل القراءة المضطربة لوقائع التاريخ وما سيترتب عليها من تخرّصات وأوهام ليس لها نهاية .
ووصلاً لكل ذلك مع بعضه بعضاً .. وفى سبيل الترويج لثقافة الهزيمة وعذابات جلد الذات التي تُشجي تلك الانتلجنسيا بما يتوافق مع ميل طبعي لما سبق قد ينبعث -في أحيان عدة- من بنيات إجتماعية وقبلية مثُقلة بمرارات الماضي .. فإن حملة لواء الهزيمة لن يتأخروا عن الإنتصار بخواطرهم المُعلنة بكل ما فيها من تبخيس وعدوانية نحو موروثات شعبية تنضح بإرث المقاومة الوطنية وما صحبها من التاريخ الوطني والقبائلي المشترك والمتقدم بحسابات زمانه ومكانه على غرار الثورة المهدية .. وذلك من خلال الرفض النفسي العميق لكل الانتصارات التي حققتها على المستويين الشعبي والوطني .. ذلك الرفض الذي يُقر " ضمناً" .. المتسلط المحتل على تسلطه ويتواطأ معه بهوسٍ محموم بحثاً عن تحقيق الشرعنة لما قام به بأثر رجعي .. بما يُسهل عملية إلباسه ثوب الأنسنة و الطهرانية .. ومن بعد ذلك إلباس المقاوم بزنده الفتي.. ثوب الدروشة والهوس الذي يؤطر لعملية إنهيار الإعتبار للذات ويجعل منها سيدة المشهد بكل مكان .
ومع حلول كل ذكرى جديدة للاستقلال تتسابق ذات الانتلجنسيا لإبداء الإعجاب بطريقة إدارة البريطانيين للبلاد ومؤسساتها ومنها بالأخص مشروع الجزيرة - واعتقد انهم محقون فيما ذهبوا اليه فقد كانت طريقة عبقرية بحق - ولكن لن يخطر علي بال احدهم أن المستفيد الأول من المشروع كان الاستعمار البريطاني - قبل ان يكون أهل السودان- فقد رفد قطن الجزيرة بريطانيا مع غيره من مشاريع الأقطان بإمبراطوريتها .. رفدها بالذهب الابيض مما أسهم في الإبقاء على عجلة انتاج صناعة النسيج بلانكشاير وغيرها من مدن بريطانيا .. وحال الإنتلجنسيا فيما ذهبت اليه .. يشابه قصة الفلاح الذي كان يفلح بساتين القيصر في روسيا القيصرية مقابل جوال قمح في كل 3 اشهر فلما قامت الثورة البلشفية وعرضوا عليه الذهب كأجر له .. قال لا أريد أكثر من جوال قمح واحد فذلك هو ما أستحقه وما تعودت أن أستحقه.. أما الذهب فتستحقونه أنتم .. يا ساداتي !
ثم تنتقل ذات المجموعات " بكربلائياتها" فتسكب الدمع السخين على خطوط السكة الحديد التي ربطت بما يشبه المعجزة شمال السودان بجنوبه .. ولكن لن يذكر احدهم ان ذات السكة حديد كانت لإستعمال البريطانيين وحدهم - وخصوصاً فيما يعني الشمال والجنوب - و لم تكن لتنقل أهل شمال السودان لجنوبه او العكس بحرية لأن هناك سياسة إستعمارية اسمها "سياسة المناطق المقفولة" لا تريد لأهل الشمال ان يلتقوا بأهل الجنوب . فصنعت ضغائن بين الشمال والجنوب اسواء مما صنع الحداد . سيتناسى الكثيرون أن مشروع السكة الحديد بين الشمال والجنوب ذاك كان في إطار حلم إمبريالي بريطاني عظيم سعى إلى ربط الاسكندرية بكيب تاون .. ولو علم هؤلاء تلك الحقائق لأدركوا انهم يتباكون على أمجاد غيرهم .. أكثر مما يتباكون على أمجادهم !
وعندما أحكم الإنقاذيون قبضتهم على البلاد فخنقوا رقاب الناس وضيعوا الوطن ومزقوه ل29 سنة حتى بلغت الروح الحلقوم .. إستفاق تيار الهزيمة النخبوي من وهدته العميقة جزئياً .. ليدرك أن من يسعى لإستنهاض الشعوب لمقاومة الدكتاتوريات عليه أن يعي أن التاريخ النضالي المشترك لأي شعب هو الوقود الذي بدون التزود المعنوي من رصيده الثمين .. لن تدور لعجلات التغيير اي قطار على قضبان اليوم . والذي لا شك فيه أن النظام قد إستفاد بميكافيلية مستترة من كل خطابات تحقير الذات التي روج لها تيار الانتلجنسيا المنهزم .. وإنتفع النظام بلا مبدئيته الآزلية من طبيعة البنية النفسية والعقلية لتيار الهزيمة للترسيخ لنموذج الانسان المقهور بسياكلوجيته التي تتأبي كل بارقة مشرقة فيما يختص بقضايا الهوية والتاريخ المرتبط بها . هذا الفعل التراكمي أدى إلى نمط علائقي مضطرب نحو الخطاب الثوري حينما تصدت له الانتلجنسيا المنهزمة سعياً لإحداث التغيير ضد نظام القهر والتجويع .. لأن التغيير نفسه فعل أيجابي يتطلب بنية وعي نفسانية مفعمة بالإيمان بالذات الوطنية والإرث الشعبي في المقاومة .. وهي ذات البنية التي يعمل تيار الانتلجنسيا على التأسيس لحالة خصومة نفسية عميقة معها ..مما أوقع تلك المجموعات في مأزق أيدولوجي مأزوم .. نتج فيما نتج عنه متاريس ذاتية موضوعية تقاوم عملية التغيير نفسها . فإكنفأت ذات الإنتلجنسيا المنهزمة على نفسها مجدداً لممارسة هوايتها المفضلة في إعادة إنتاج خطابات تحقير الذات وتقزيم الموروث الشعبي والوطني .. لتختار كعادتها دفن الرؤوس في الرمال بدلاً من التحليل الموضوعي لأسباب فشل عملية التغيير .
من المهم جداً ألا يفهم القارئ مما سبق أن فيه تأييداً لما تبنته الحكومات الوطنية التي تلت الاستعمار من سياسيات متخبطة عمقت أزمات البلاد و ساقت الوطن إلى مربعات اللاعودة بين شموليات باطشة متجبرة إلى ديموقراطيات حالت مغامرات العسكر وتحالفاتها مع القوى العقائدية دون بلوغها مبالغ الرشاد . وبين هذا وذاك عجز التيار النخبوي المنهزم عن النقد الذاتي لمساهماتهم ومساهمات منسوبيهم كأفراد و ومجموعات في الترسيخ لما سبق من أزمات سواء من خلال المشاركة بنصيب مقدر فيها أو بالترقب السلبي لتغييرٍ يأتي بما تشتهيه أنفسهم وهم مستغرقون في حالة متواصلة من لعن الظلام من دون أن تمتد أياديهم المرتجفة لإيقاد شمعة واحدة . ذلك العجز الذي استغرق ذات المجموعات في سلوك ارتمائي مُنهِك على يوتوبيا حالمة من البكائيات المستمرة على حوائط البريطانيين واختزال تلك الفترة في إنجازات مادية قامت لمصلحة السيد أكثر من قيامها لمصلحة المُستَرَق ... هو ذات العجز الذي أفضى إلى حالة من التعلق الوجداني اللاموضوعي بمثالية الأبيض الغازي المزعومة التي تجُب ما قبلها من دماء السودانيين المراقة في سبيل التمكين له ولسطوته .. وكأنها ذهب المعز الذي اشترى به ولاءاً سرمدياً لتلك النخب حتى وإن إنطلق ذات الولاء من ذهنية الرضوخ وعوالم اللاوعي .
إن التيار الانهزامي يفوته دوماً ان ذكرى استقلال الشعوب هي ذكرى انتصار متافزيقيا الحرية المتأصلة في إنسانية الانسان منذ الأزل . وهي ذكرى مجبولة بطبيعته على أن تتجاوز بحدودها كل التفاصيل المادية والبكائيات التي ليس ورائها من طائل .. فقد حان الاوان لإسدال الستار على ذلك المسلسل المشحون بما يكفي من الطاقات السالبة المهُدرة فيما لا يبقى ولا ينفع الناس . حان الاوان للكف عن مقارعة الذات في دهاليز التاريخ بسيف دون كيشوت الخشبي الذي ما حقق له في يوم ما أي انتصار .. ولو كان هناك من عدوٍ واحد يتوجب على الجميع مقارعته في يوم ذكرى الاستقلال المجيدة .. فليس هناك سوى نظام الفقر والمسغبة الانقاذي الذي قتل وشرد وشتت وقسم بلداً بحجم مليون ميل . إذن .. يتوجب على تيار الهزيمة أن يعلم أن عليه الآن أن يقلب صفحات التباكي على المستعمر البريطاني الذي ذهب بفردوسه المفقود إلى غير عودة . وعليهم أن يقرأوا من صفحات يوم كهذا بواقعيتها التي تتطلب أن تتعلق كل القلوب والأبصار بشئ واحد لا ثاني له ..ألا و هو تحقيق الاستقلال مرة اخري للوطن بدك عرش طاغوت الإنقاذ التي سلبت إنسانية انسان السودان وامتصت بأنيابها الطفيلية من دمائه كل ما بقي كرامته وعزته .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.