بسم الله الرحمن الرحيم ليس صحيحاً أن الحكومات المصرية تستغل ضعف الحكومات السودانية لتعتدي على مثلث حلايب ولكن على العكس من ذلك فإن الإعتداء عادة ما يقترن بالحكومات السودانية القوية التي تحاول تأسيس مواقف مستقلة عن مصر فقد احتلت مصر المثلث عام 1958م لتضغط على حكومة عبد الله خليل التي كانت أقرب إلى حزب الأمة – عدوها التقليدي- ودفعت حكومة عبود بعد أن سيطرت عليها العناصر الموالية للإتحاديين لتوقيع ملحق إتفاقية مياه النيل عام 1959م واحتلته في مطلع التسعينات من القرن الماضي لتضغط على حكومة الإنقاذعندما تبين لها أن الإسلاميين يقفون وراءها وعندما تحركت تحركات واسعة في أثيوبيا وارتريا وتشاد ومحيطها الإقليمي ومهما قيل عن أهمية مثلث حلايب الإستراتيجية وموارده فإن أحتلال الجيش المصري له ينطوي على خطة خبيثة تفرغ جهد السودانيين في الحدود جنوب خط عرض 22 + من الواضح ان هواجس مصر في السودان تتعلق بموضوعين اساسيين الموضوع الاول هو الحدود : فقد كانت حدود مصر التاريخية لا تتجاوز جنوبالقاهرة الحالية إلا بقليل وحتى حملة محمد على باشا على السودان عام 1821م لم تكن تلك الحدود تتجاوز مدينة أسوان كما لم تستطع الحملة الفرنسية على مصر عام 1799م أن تتجاوز المدينةجنوبا وهي تطارد المماليك فقد كتب ألان مررهيد في كتاب النيل الأزرق : (وبدأ بعد ذلك زحف سريع حاسم نحو أسوان فتلك المدينة كانت أمل الفرنسيين الأخير للحاق بمراد بك قبل أن يتمكن من الفرار في جوف الصحاري النوبية فيما وراء الحدود المصرية ) وقد عاد الجنرال الفرنسي غافلاً ليعسكر في مدينة الفيوم مكتفياً بإخضاغ 500 ميل على ضفاف النيل جنوبالقاهرة من أراضي النوبة + ونتيجة لهذا الهاجس فقد ظلت مصر تزعم أنها طوال تاريخها كانت تتمدد جنوب خط طول 22 الذي تعتبره حدوداً للسودان لذلك زعمت أن منشأ الحضارة الفرعونية هو مصر الحالية وأن ملك الفراعنة قد امتد جنوبا حتى وسط السودان الحالي مع أن البحوث التاريخية الحديثة أثبتت عكس ذلك وأن اصل الحضارة الفرعونية هو ممالك النوبة القديمة في السودان والتي امتد ملكها حتى الشام + وكذلك ادعت مصر أن المسلمين عندما فتحوا مصر تجاوزا تلك الحدود حتى وصلوا مدينة دنقلا بينما الذي يقرأ في مصادر التاريخ الإسلامي القديم حول هذا الموضوع ككتاب فتوح مصر و المغرب لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري المتوفي عام 257 ه وكتاب فتوح البلدان للبلاذري المتوفي عام 279ه وكتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير وكتاب تاريخ الطبري و البداية و النهاية لابن كثير وغيرها يدرك الحقائق التالية : 1- تكلمت كل هذه الكتب عن أن مصر التي فتحها المسلمون كانت تشمل ثلاث مناطق هي : شرق القاهرة في الفسطاط و الإسكندرية وعين شمس والقرى التي حولها وهي كلها لا تتجاوز منطقة الدلتا وقالت بعض هذه المصادر أن ملك عين شمس كان دولة بين القبط و النوية 2- ان عمرو بن العاص قاتل النوبة فقاتلوه بجيش عظيم استخدموا فيه الفيلة والرماح (ولدقة إصابتهم سماهم المسلمون رماة الحدق ) فاصابوا جيشه بالجراح وقاتلهم بعده عبد الله بن أبي السرح وعاهدهم في أتفاقية البقط المشهورة 3- معارك المسلمين مع النوبة لم تتجاوز جنوبالقاهرة الحالية إلا بقليل حيث كانوا مهتمين بالإتجاه غرباً وفتح إفريقيا ( وهي منطقة ليبيا وتونس الحالية ) ولوتوجهت قوات عمرو بن العاص و ابن أبي السرح حتى دنقلا لاستغرق منها ذلك عدة سنوات وقد كان واضحاً أن قادة هذه الجيوش كانوا لا يريدون تشتيت جنودهم في الصحراء واراضي النوبة المقاتلين 4- التحرك الوحيد للمسلمين جنوباً كان تحركهم شرقاً عبر الصحراءً لتأمين الطريق إلى مكة حيث قاتلوا البجة - الذين كانو منتشرين في المنطقة بين ساحل البحر الأحمر والنيل - وعاهدوهم على حماية الطريق حتى ميناء عيذاب 5- ليس صحيحاً أن طريق النيل من مصر هو من الطرق الرئيسة التي دخل بها الإسلام إلى السودان فقد دخلت موجات الإسلام الأولى عن طريق البحر الأحمر وهي طريق تجارية قديمة تمتد إلى غرب إفريقيا عبر مدبنتي بربر وشندي والموجة الرئيسية الثانية للإسلام كانت من غرب إفريقيا وشمالها بعد سقوط الأندلس ولا شك أن إتفاقية البقط قد سمحت لبعض المسلمين بدخول منطقة النوبة الدنيا داخل حدود مصر الحالية + كان ملوك النوبة في العهد المملوكي في مصر يستعينون أحيانا في حروبهم بالمماليك فينصرونهم ويرجعون إلى مصر ( شمال أسوان ) وكان أول تمدد مصري جنوب مدينة اسوان في حملة محمد على باشا عام 1821م بعد أن زين له المغامرون الأوربيون ذلك بحديثهم عن مملكة سنار والذهب وموارد السودان الزراعية وذلك بعد أن أوقفت السلطات التركية تعديه على أراضيها في منطقة الشام وفلسطين ولكنها عادت فاضطرت تحت الضغوط الأوربية أن تمنحة عام 1841م فرماناً يحكم بموجبة أقاليم السودان التي كانت تخضع للدولة السنارية وبغير وراثة ومنها إقليم النوبة وقد ورد فيه : ( إن سدتنا الملوكية كَمَا توضح فِي فرماننا السلطاني السَّابِق قد ثبتكم على ولَايَة مصر بطرِيق التَّوَارُث بِشُرُوط مَعْلُومَة وحدود مُعينَة وَقد قلدتكم فضلا على ولَايَة مصر ولَايَة مقاطعات النّوبَة ودارفور وكردفان وسنار وَجَمِيع توابعها وملحقاتها الْخَارِجَة عَن حُدُود مصر وَلَكِن بِغَيْر حق التَّوَارُث فبقوة الاختبار وَالْحكمَة الَّتِي امتزتم بهَا تقومون بادارة هاته المقاطعات وترتيب شؤونها بِمَا يُوَافق عدالتنا وتوفير الاسباب الآيلة لسعادة الاهلين وترسلون فِي كل سنة قَائِمَة إِلَى بابنا العالي حاوية بَيَان الايرادات السنوية جَمِيعهَا ) ولكنها لم تمنحه تفويضاً في أقليم البحر الأحمر الذي ظلت الإستانة تحتفظ به وقد تجنب محمد علي التمدد في أثيوبيا وساحل البحر حتى لا يدخل في مواجهة مع الإنجليز ( لذلك نلاحظ أن مثلث حلايب لم يكن تابعا لسلطان مصر أصلاً ) وقد كانت هناك خرائط تركية مع فرمان التفويض تؤكد ذلك ربما قام المصريون بعد ذلك بإخفائها + وفي هذا الإطار صور المصريون وحلفاؤهم البريطانيون الخليفة عبد الله التعايشي وكأنه رجل أصولي له اطماع توسعية طوباوية تمتد الى إثيوبيا ومصر وربما الزواج من الملكة فكتوريا ليخفوا حقيقة أن الرجل بحملاته كان يرمي إلى أستعادة ما كان يراها أراضي سودانية اغتصبها الخديوي ولم يعترف المصريون ولا حلفاؤهم الإنجليز بأن التأييد الواسع الذي لقيته الثورة المهديه كان ردة فعل مباشرة للمذابح البشعة التي ارتكبها إسماعيل باشا والدفتردار في مناطق النوبة في الشمال وفي وسط السودان وجنوبه وممارسات جنود الخديوي وولاته في التجنيد القسري للأهالي وتجارة الرقيق + ويبدو أن مصر كانت ترمي من وراء ملحق أتفاقية مياه النيل لعام 1959م ومن وراء تشييد السد العالي إنتزاع التأكيد السوداني لحدودها الجنوبية ولربما اختارت أن تشيد السد في مدينة أسوان في الحدود الشمالية للأراضي التي احتلها محمد على باشا في أرض قد لا ينازعها عليها السودانيون كما انها استطاعت به أن تغمر معظم آثار الحضارة النوبية في تلك المنطقة وتنقل بعضها إلى متاحفها شمالاً + ظلت مصر عبر تاريخها تنظر إلى العلاقة مع السودان باعتبارها قضية أمنية تهتم بها الأجهزة الإستخباراتية التي اتهمتها دوائر سودانية بزراعة عناصرها في البعثات الدبلوماسية واللجان المشتركة واستهداف الطلاب و المبعوثين إليها واستمالة القوى السياسية ومعارضات انظمة الحكم المتعاقبة وقد ظلت العلاقة بينها وبين الإدارة البريطانية طوال فترة ما كان يعرف بالحكم الثنائي مضطربة وكان غريباً أن تصر تتخلى ثورة يوليو المصرية عن كل ميراث الخديوي ماعدا سياسته نحو السودان لذلك اعتبر قادة الثورة السودان جزءاً من مصر ووضعوا دستور ما كان يعرف بالحكم الذاتي وشكى السيد عبد الرحمن المهدي من تدخل المخابرات المصرية في انتخابات الحكم الذاتي لصالح الداعين للإتحاد الذين فازوا بها وظلت مصر تتربص بكل التحولات السياسية في السودان وتتدخل فيها فقد اتهمتها دوائر بدعم انقلاب الضباط الموالي للإتحاديين ضد حكومة العسكريين الموالين لحزب الأمة بقيادة الجنرال عبد الوهاب عام 1958م كما اتهمتها دوائر سودانية بدعم انقلاب مايو 1969م والمساهمة في افشال انقلاب الشيوعيين عليه بعد ذلك وظلت حكومة الانقاذ تتهمها بتقديم الدعم لحركة التمرد في جنوب السودان والتجمع الوطني المعارض و الحركات الدارفورية + والهاجس الثاني لمصر في السودان هو تأمين تدفق حصتها من مياه النيل لأنها تدرك أن السودان هو الدولة الوحيدة التي يمكن أن تؤثر على هذه الحصة لأن أثيوبيا لا يمكنها حجز المياه وليس لديها أراضي زراعية على طول ضفاف النيل الأزرق الذي تتدفق منه 85% من مياه النيل وقد طلبت أثيوبيا حصة لا تتجاوز 6 مليار متر مكعب من مياه النهر بعد تشييد سد النهضة لتوظيفها في الزراعة ربما في أراض على الحدود السودانية والتي لا تساوي شيئاً مع وفورات السد كما أن النيل الأبيض يتدفق منه ما لا يزيد عن 15% من مياه النيل مما يقلل من الدور الذي تلعبه دول جنوب الحوض في التأثير على حصة مصر... وقد نتناول ذلك في مقال آخر إن شاء الله عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.