في كل مرة يُنشر فيها مقطع مصور للرجل الخفي الخليجي الذي يقوم بتغطية رأسه ووجهه وتُظهِره الكاميرا من قفاه، في كل مرة يُنشر لهذا الرجل مقطع وهو يقوم فيه بتقديم مساعدة لواحد من بؤساء بلادي تسيل دموع المشاهدين قبل أن يذرُف مثلها أصحاب النصيب الذين يُفرّج الرجل الخفي عن كُربتهم بتقديم شيئ من المعونة العينية أو النقدية. ميزة هذا الرجل الإنسان، بخلاف كونه لا يُظهِر إسمه ولا رسمه أو الجهة التي تقف وراءه، أنه لا ينبِش حال الذي يُريد الإحسان إليه، ويتحاشى طرح أسئلة فيها أيّ قدر من الخصوصية أو تعرّض ضيفه للحرج أو المضايقة، وقد شاهدته في أحد المقاطِع وهو يقصد سيِّدة تقوم ببيع الشاي بعد إعداده على "منقد" فحم في قارعة الطريق، فإتخذ لنفسه أحد "البنابِر" أمامها وطلب منها كباية شاي وقطعة زلابية، وبعد أن أطرى على صُنعِها أخذ يسألها عن حالها وظروفها، وأخبرته أنها تُربِّي أبنائها الأيتام من عائد بيع الشاي والزلابية وتُغطّي منه مصروفات تعليمهم وكسوتهم ورعايتهم. فجأة وفي هدوء ظهر من خلف الرجل الشبح جماعة يحملون جهاز "بوتوجاز" وأنبوبة غاز لمساعدتها في عملها، ثم إختفى الرجل من أمامها وتركها تكفكف دموعها بطرف ثوبها البالي، وهي عاجزة عن رفع بصرها لترى أين ذهب هذا الرجل الذي قدّم لها المعروف. قنبلة هذه المشاهد كانت في حالة رجل غلبان ترى البؤس والشقاء في عينيه وملابسه المُهترئة، توجّه إليه الرجل الخفي بعد أن وجده يعمل منهمِكاً في غسل عربة تاكسي، وأخبره الخليجي بأنه شخص غريب ولا يملك أجرة الذهاب إلى مكان سكنه، فمال السوداني الغلبان بجسده عن الرجل الخفي ثم نظر إلى السماء برهة، ثم أخذ يتحسّس جيوبه بيديه، ثم أخرج من أحد جيبيه محفظة وأخذ يفرك باطنها بأصبعيه يبحث عن قطعة معدنية أو ورقية، ولكن محفظته كانت خالية. هنا إنتبه شخص سوداني يبدو أنه كان يُراقب ما يجري بين الرجلين، فدسّ ورقة مالية في يد الرجل الغلبان حتى يدفع عنه الحرج الذي وقع فيه أمام شخص غريب. بعدها كشف الرجل الخفي عن حقيقته وأعطى الرجل الغلبان رزمة من الأوراق المالية فيما كان الرجل الغلبان يتعذّر ويرفض قبول العطية. فرص الذين يبتسم لهم الحظ بمصادفة هذا الشبح الخليجي من تُعساء وفقراء الوطن لا تزيد عن نسبة واحد في العشرة مليون، ومن هنا يأتي السؤال: هل هناك ثمة فائدة تعود من وراء نشر مثل هذه المقاطع المؤثّرة التي تفطر الفؤاد وتشطر القلب إلى نصفين؟ الإجابة نعم، هناك ألف سبب لنشر مثل هذه المشاهد، وأولها أن يرى لصوص الإنقاذ بعيونهم وهم أحياء قبل أن يطمُرها التراب حال الضحايا الذي سرقوا أموالهم ونهبوا حقوقهم، وكيف أن هؤلاء الذين تسبّبوا في فقرهم وتعاستهم يتفوقون عليهم بالنخوة والكبرياء، ولا يزالون يحتفظون بالقيم السامية التي يفتقِر إليها اللصوص الذين إغتنوا من أموالهم، كما أنه من هذه المشاهد يطمئن المرء إلى أن السودان برغم البؤس والفقر، لا يزال كثير من أهله يتسِّمون بالقناعة وعِزّة النفس التي إعتقد كثيرون أنها إندثرت بفعل توسنامي الإنقاذ. كما أن القيمة التي تُرسيها مثل هذه الأعمال الخيِّرة أنها تزرع الأمل في قلوب البؤساء والتُعساء أن الدنيا لا تزال بخير، وتُذكِّرهم بأن الرحمة والإنسانية لا تزال في قلوب البشر، وأن الفئة الضالة لا بد أن يأتي اليوم الذي ينقطع فيه دابِرها، وأن قيم الحق عائدة عائدة، مهما فعل هؤلاء الأوباش في طمسها، وما يؤكد هذه المعاني، أنك تجد أن الذين تفاعلوا مع المشهد وغلبتهم دموعهم أو حتى إنفجروا بالبكاء مع كل حالة تلحقها يد هذا الرجل الشبح هم أكثر بؤساً وتعاسة من حالة صاحب الحظ السعيد، ولكنهم يفرحون لفرحته ولفرّج كُربته وكأنه هو (المشاهد) الذي طالته المَكرمة. وجه الحُسن في هذه المشاهد أنها ترسم صورة حيّة بالصوت والصورة للمقارنة بين حال السارق والمسروق، ففي مقابل المشاهد التي ترد بالهواتف النقّالة لهؤلاء التُعساء، تأتيك المقاطِع التي تُصوّر حال أثرياء الإنقاذ الذين تسبّبوا في تعاسة وإفقار الشعب، هل رأيت النشوة والحبور والسعادة التي يعيش فيها هؤلاء الجناكيز وهم يحتفلون بليالي رمضان مع عوائلهم في صالة (إيه جي سي)، كم يدفع الواحد منهم في مقابل مثل هذه السهرة من رسم دخول ومأكولات ومشروبات وشيشة؟ ألف؟ ألفان؟ (في ردّه على الرجل الغريب ذكر له غسّال العربات بما يُشبه الفخر أنه يعمل في الحكومة ومرتبه ألف جنيه في الشهر). الواقع أن الذين ظنّوا بأن قيم اأهل السودان قد أهدرتها الإنقاذ بفسادها وإفسادها لهم في ذلك ألف حق، ذلك أنه قبل الإنقاذ كان للفساد والجريمة أهلها وللفضيلة والصلاح رجاله، ولم يكن هناك من يجمع بين الجريمة والفضيلة، وكان الفساد عاراً يجلب الإحتقار لصاحبه، فجاءت الإنقاذ وذوّبت المسافة بين الفضيلة والرزيلة وتلاشت الفوارق بينهما، فأصبح الفاسد يتقدم الناس في الصلاة ويحج البيت الحرام كل عام، ويصوم كل إثنين وخميس، وتتسع غرّة صلاته بقدر إتساع ذمته، وصار لكل فاسد مريدين وأحباب يسبّحون بحمده وينتظرون عطفه وعطاياه، فتراخى الشعور بالعيب عند الناس، فأصبح الناس يُقدِّمون اللص الصفوف ليقود مسيرتهم في العمل العام بالأحياء والأندية الرياضية وصار لكل فاسد مريدين وأحباب يسبّحون بحمده وينتظرون عطفه وعطاياه. شكراً غسّال العربات الذي لا نعرف لك إسماً، فأنت الذي تُمثلنا، وتحيي الأشياء التي ماتت فينا، أو هكذا إعتقدنا. سيف الدولة حمدناالله عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.