التقيت بصديقي عوض لأول مره في قاعات الدرس في كلية الآداب في جامعة الخرطوم. كان ذلك عندما كنا "برالمه" في عام 1965، ولكن عوض لم يكن "برليما" أصيلا، بل أنه كان أكثر من ذلك: فقد جاء الي كلية الآداب من شعبة المعمار التي كان قد قبل فيها في العام السابق. وعندما عرفته أدركت لماذا قرر أن يترك المعمار ويلوذ بالآداب، ذلك لأن عوض عقل متمرد وذات قلقه تنزع الي الحرية وتضيق بالقيود. ولا بد أنه قد ضاق بالساعات الطوال التي قضاها في المرسم، بين حيطان أربع، يتعامل فيها مع مواد صلبة وثابته، ولا بد من أنه تصور نفسه منذ ذلك الوقت وهو يتجول بين الحجارة وأكوام الرمل وأكياس الاسمنت. ومهنة المعمار مهنة جميلة وطريفة، إذ أنها تجمع بين الخيال والإبداع، من جانب وبين التعامل مع الجماد والأشياء الملموسة التي تحتاج الي الصبر والأناة وطول البال، والجلوس علي مدي ساعات طويلة الي طاولة المرسم، والتجوال ما بين المواقع المختلفة، لا سيما إذا كان ذلك في حر السودان الغائظ، من جانب آخر. وهذه الأسباب وغيرها حدت بصديقي عوض الي أن يلوذ بكلية الآداب، وعلي وجه الخصوص شعبة الفلسفة التي وجد فيها ضالته. إذ أنه انتقل من الرسم بالحجارة والثوابت الملموسة الي الرسم بالأفكار والتنظير للظواهر الروحية والمادية والاجتماعية، وسبر غورها واستخلاص الدلالات والنتائج. ولا شك في أن لكل منا فهمه لماهية الفلسفة، بل أن البعض عندما يري أنك تكثر من الكلام، يقول لك: "ياخي خلي الفلسفة والكلام الفارغ ده!" ولا شك في أن قصة الفلسفة قصة طويلة، ولذا ذهبت الي "ويكيبيديا" كما نفعل هذه الأيام لكي أري ما تقوله عن الفلسفة. وهذا ما وجدته: (الفلسفة (مشتقة من اللفظ اليوناني φιλοσοφία فيلوسوفيا، وتعني حرفياً "حب الحكمة") هي دراسة المشاكل العامة والأساسية التي تتعلق بأمور كالوجود، والمعرفة، والقِيَم، والعقل، واللغة. من المرجح أنّ الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس مبتكر ذلك اللفظ. المنهج الفلسفي يتضمن التساؤل، والمناقشة النقدية، والجدال بالمنطق، وتقديم الحجج في نسق منظم. من أمثلة الأسئلة الفلسفية التساؤل عن إمكانية معرفة أي شيء وإمكانية إثبات تلك المعرفة، عن الوجود وعمّا هو موجود حقاً، عن الصواب والخطأ، عن كيفية عيش حياةٍ ذات معنى، وعمّا إذا كان الإنسان مخيّراً أم مسيّراً[1]. وكما نعلم نحن في بلاد الإسلام، فإن هنالك تاريخا طويلا من الحوار والنقاش، بل والصراع حول موضوع الفلسفة وعلاقتها بالتدين والتأمل والتفكر والتدبر، وبالجبر وحرية الاختيار، وما الي ذلك من قضايا حيوية ومصيرية. وليس هذا موضوع هذا المقال، وإنما هذه مجرد "تخريمه" لمن أراد الاستزادة من هذا الموضوع الشيق، والتعامل معه بعقل مفتوح. وموضوع العقل المفتوح هذا هو موضوع هذا المقال. إذ أنني منذ أن عرفت صديقي عوض كان من أول الأشياء التي لفت نظري وكانت سببا من أسباب صداقتنا الطويلة، هو ذلك العقل المنفتح علي كل مصادر المعرفة والشغف بالقراءة والإطلاع، وإخضاع كل الأمور للبحث والتمحيص، وتناول الأمور من زاوية خاصة، قد تثير الدهشة والاعجاب، وربما التساؤل والحيرة من قبل أولئك الذين لا يعرفونه، وربما يتهمونه بعدم الجدية في بعض الأحيان. وترتبط تلك الحالة الذهنية كذلك بالكثير من السخرية اللاذعة، التي قد يفسرها البعض بأصوله "الشايقية"، ولكني لا أميل الي التفسيرات الاثنية للظواهر التي ترتبط بالذكاء، أو سرعة البديهة. فهذه ظواهر شخصية تجدها عند مختلف الجماعات القبلية والاثنية في السودان، حتي إذا زاد المعدل قليلا عند هذه الجماعة أو تلك. وهذه الصفات، سرعة البديهة والفكاهة، جعلت من عوض محبوبا بين أقرانه منذ أيام الجامعة واستمر هذا الأمر الي ما بعد التحاقه بوزارة الخارجية وتدرجه في السلم الدبلوماسي الي أن سار سفيرا يشار إليه بالبنان. ومن صفات صديقي عوض الأخرى الشجاعة في إبداء الرأي، وربما ارتبط ذلك ببعض الحدة في التعبير عن رأيه، ممزوجا ببعض السخرية والاعتداد بالنفس. وهو من أنصار حرية التعبير، حتي وإن كانت علي حساب الذات. كما أنه يتميز ببعض المثالية التي تجعله في حالة دائمة من عدم الرضا والضيق بظواهر العجز والتقصير التي أصبحت من سمات العصر، لا سيما في السودان، مما يجعله يري "الجبهة" في كل مكان. فعندما كان موظفا مرموقا في منظمة اليونيسكو في تسعينيات القرن الماضي، كان يري أن روح "الجبهة" قد تقمصت المكان فصار، في رأيه، مرتعا لذوي الفكر المحدود والرأي المخروق، حتي وإن لم يكن ذلك ينطبق إلا علي القلة. وهو الآن يطبق نفس نظريته "الجبهوية" علي الظاهرة "الطرمبية" في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي يقول أن داء "الجبهة" قد انتقل إليها وأن الإدارة الجديدة تعج بنسخ عديدة من "ربيع عبدالعاطي"، الذي يمثل في رأي عوض أقصي ما تفتقت عنه العبقرية "الجبهوية". ومن النظريات المحببة الي صديقي عوض ما أسماه منذ زمن بعيد ب"الشيئ السوداني"، قاصدا بذلك أن ثمة خللا أساسيا في الشخصية السودانية، إلا أنه نسبة لاستحالة تعريف ذلك الشيئ وتحديد صفاته وأوصافه وكافة أبعاده، فإنه اكتفي بأن يسميه "الشيئ السوداني"، تاركا للآخرين مهمة السهر والاختصام في تعريف ذلك الشيئ. وعوض لا يمكن أن يعيش دون فكاهة لاذعة، وله أسلوبه الخاص في ممارسة تلك الفكاهة. وقد ظل منذ سنوات عديدة يردد مقولة صديقه المرحوم الطيب صالح (أخذني عوض الي المرحوم الطيب صالح في مسكنه في ويمبلدون في عام 1971 عندما كنت أحضر الدكتوراه في السوربون وكان الطيب صالح أحد الكتاب الذين تناولتهم بالبحث والدراسة في أطروحة الدكتوراة، وكانت أول ترجمة فرنسية لموسم الهجرة قد صدرت في نفس ذلك العام، وكان عوض حينها سكرتيرا ثالثا بسفارة السودان بلندن)، كان عوض يردد في السنوات الأخيرة مقولة صديقه المرحوم الطيب صالح: "من أين أتي هؤلاء الناس". وهو ظل يردد منذ سنوات أن هؤلاء الناس "محرشين"، ولا أظن، حسب فهمي ومعرفتي لصديقي عوض علي مدي ما يزيد من نصف قرن من الزمان، أنه يقصد أن شخصا ما قد حرشهم، بل هو نوع من "التحريش الذاتي"، بل أنهم يحرشون بعضهم البعض ويعاونون بعضهم البعض علي تخريب السودان، حتي وإن ظنوا أنهم يحسنون عملا، وحتي إن صدقنا ما يقوله البعض من شاكلة: "صح مني العزم والدهر أبي" ... ولا يختلف اثنان علي ما حل بالبلاد من خراب. وخلاصة القول أن صديقي عوض "مفكر حر"، وهو يمثل الفكر الذي تحتاج إليه بلادنا للخروج من نفق الشمولية المظلم، ومن ربقة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد. وفي مثل حالة عوض لا تجدي محاكم الرأي والضمير، إذ أن حرية الرأي والفكر ستكون هي الغالبة، وهي اللبنة الضرورية لبناء مجتمع الغد، الذي هو مجتمع الحرية والديموقراطية والفكر الحر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.