في مطعم الفندق الصغير بوسط المدينة كنا قد جلسنا للعشاء. كلانا ، أنا وانتونيو ، كنا قد تعشينا هنا البارحة. في فندق باناما المتواضع بقلب مدينة موشي الوديعة تحت بصر جبل الكيليمانجارو. انضم الينا بعدها جيرارد من رواندا وبعده جاءت روز من كينيا. انطونويو كان من أثيوبيا. تصادقنا دون تخطيط أنا وأنطونويو حتي لقد قالت جلاديس من يوغندا أنها لم تفرق بيننا أول الأمر بل وبعده لعدة مرات ، بسبب الشبه البائن ، أو كما قالت. ظننا ذلك تهويلاً منها حتي قالت باتريشيا من كينيا بذلك هي الأخري. من زمان بعيد أسر الأحباش قلبي ، من زيارتي الأولي والأخيرة لأثيوبيا في العام 2003. في مطار بولي بأديس أبابا تحدث معي غير واحد من سكان البلاد بلغاتهم المحلية . قلت بصوت خفيض آميين ، وأنا أقرأ ما معناه فليحفظ الله أثيوبيا مكتوباً بالانجليزية وبخط كبير علي واحد من محلات السوق الحرة بالمطار. في مطعم فندق باناما ومن ثلاجة المطعم أخذ جيرارد زجاجة بيرة . هل يمكنني الشراب بحضور رجل من السودان قال لي بجدية يشوبها التعجب. أعلم أنهم لا يسمحون لكم بشراب البيرة في السودان ، ياربي ، كيف يمكن للناس الحياة في بلد كهذا ؟ صدقني، قال لي ، إن هذا ضد حقوق الانسان. قبل ما يقارب العشرين عاماً ، في العام 2002 ، في تونس ، سألني محمد السواق بمعهد باستير بتونس ذات السؤال: وكيفاش الناس تعيش ؟ قلت لجيرارد أنني اذا اتفقت معه في أن ذلك ضد حقوق الانسان فأنا للأسف قادم من بلاد هناك حقوق للانسان أهم من أحتساء البيرة ولا يجدها هذا الانسان. في قاعة الورشة التدريبية سألتني كارولاينا القادمة من بلاد جوموكنياتا ، من كينيا ، هل صحيح أنهم في بلادك يجلدون النساء في الشوارع ويعتقلونهن إن ارتدين القمصان ذات الأكمام القصيرة أو التنانير القصيرة ؟ سألتني ولم تكن تنتظر الاجابة ، قالت أنها قرأت عن ذلك أو شاهدته في التلفزيون. مدرب الورشة البروفيسور الأكبر سناً ذاته قال شيئاً مثل ذلك ، ضرب مثلاً عن وجوب معرفة البيئة وتقاليد الناس ، قال إنه صاحب وفداً من الأمريكان الي الخرطوم وكان بينهم آنسات ، تم إخبارهن بأن يغطين رؤوسهن ويلبسن الملابس الطويلة لأن ذلك هو ما يفعله الناس في السودان وغير ذلك لن يكون مقبولاً هناك ، فأبدي الحضور تعجبهم من كون ذلك يحدث في هذا الزمان ، أي أن يتدخل الآخرون فيما ترتديه ، أبدوا تعجبهم وإن حاولوا أخذ الأمر ببساطة احتراماً لوجودي أو قل توجساً من ردة فعلي ! قلت لهم ذلك ما تفرضه الحكومة في الغالب ولكن المجتمع بطبيعته متسامح. لا ، ليس متسامحاً قال لي جاستن من يوغندا ، أنا أعرف أنه أذا قمت بلمس أمرأة في السودان ولو عرضاً ، فانهم سيقومون بقتلك دون محاكمة. في مطعم الفندق الصغير بوسط موشي ، طلبت طبقاً من البيض المقلي وقطعة خبز وبعض الأرز. طلب أنطونيو مثل ذلك وأضاف الشطة. طلب الآخرون أشياء أخري وبعض النزلاء طلبوا الويسكي ونبيذ العنب. في مطعم الفندق الصغير ، فندق باناما بوسط موشي تحت سفح جبل الكيليمانجارو ، وفي عموم المدينة ، كانت الحياة تمضي بهدوء رتيب إنما محبب. لا أحد يأبه لما يرتديه الآخرون . لا أحد تثيره صبية عمرها عند السنوات العشرة ولا أحد يسمي نفسه رئيساً لعلماء البلاد. لا أحد يتدخل في طول التنانير ولا أحد يتحدث باسم الإله ويسرق مال الشعوب البئيسة. في الطريق من المطار إلي الفندق تحدث معنا موسي سائق عربة التايوتا بفخر عن حال تنزانيا الجديد. تحدث عن جون ماغوفولي ونزاهته. ماغوفولي الرئيس الذي كان قد عمل في بعض حياته مدرساً للكيمياء. يعتقد موسي أنه ضد الفساد ونزيه حقيقة. في الطريق الي الفندق أوقفت دورية صغيرة من رجل وأمرأة من عساكر المرور سائقنا موسي بداعي تخطي السرعة المسموح بها. أنفق موسي ما يقارب نصف الساعة في التوسلات والضراعات التي أجدت آخر الأمر . قال لي أنه استعطف السيدة آخر الأمر بأنهما من القبيلة ذاتها. سألته إن كانوا سيقبلون الرشوة إن كان عرضها فرد بالإيجاب ثم أضاف ربما ، ولكن ليس كما كان في السابق قال لي. يتحدث الناس بفخر ومودة عن أبي أحمد في أثيوبيا كذلك. كل من التقيناهم من بقية فريق الورشة ، انا وأنطونيو ، كانوا يتحدثون مع أنطونيو عن محبتهم وتقديرهم لأبيي أحمد. ورغم أن الورشة هي تخصصية في طبيعتها وعن الممارسة الطبية الجيدة ، فالناس لا يفتأون يتحدثون عن أحوال بلدانهم ويسألونك عن حال بلدك. دائماً ما يشعرك الأفارقة بأن أفريقيا بلد واحد. يتحدثون بأسي مع جيرارد وكوسو عن حرب التطهير العرقي في رواندا في تسعينات القرن الماضي ، بأسي وبحرقة لا تخطئها العين ، إنما بفرح عميم وتقدير كبير لما صارت إليه رواندا اليوم. قالت لي باتريشيا من كينيا إن هناك خلطاً في المفاهيم عظيم حين يتعلق الأمر ببلادك السودان. قالت misconception ، وأنا ترجمتها هنا بخلط في المفاهيم ويمكنك أن تترجمها حرفياً بسوء فهم. قالت لي أنه يخطر في بالها عند ذكر اسم السودان كلمات مثل العنصرية ، انتهاك حقوق النساء ، القهر ، الحرب وكلمات مثل هذه. ثم سألتني هل الناس الأغمق لوناً منك لازالوا موجودين في السودان أم تم التخلص منهم ؟ سألتني أيضاً عن لماذا يضطهد الرجال النساء في السودان وسألتني وهي الحبلي والمنتظرة لمولودها الثالث في الأسابيع الستة القادمة عن لماذا تموت النساء عند الولادة بهذه المعدلات العالية في السودان. تود أن تخبرهم عن محمد وردي ، عن عقد الجلاد ، عن أبوعركي البخيت ، عن محمد كرم الله هناك عند منحني النيل ، عن فريق كرة القدم للأطفال الذين فازوا ببطولة جيم فبكوا الأطفال من حبهم للبلاد المستحيلة ، عن ماضي سودانير الزاهر ، عن مشروع الجزيرة الذي قد كان ، تود أن تخبرهم عن جمال النيل والخرطوم بالليل ، عن عاطف خيري ومصطفي سند وعبدالله الطيب ومحمد المهدي المجذوب ، عن فرقة جاز الديوم ، عن الصلحي وعن الطيب صالح ، عن ثورة اكتوبر وانتفاضة مارس أبريل ، تود أن تخبرهم عن صفاء سماء البلاد ولكنهم يسألونك عن حقوق النساء بل وحقوق الرجال فتصمت وأنت تعلم أنهم قد يحلقون لك شعر رأسك في شوارع الخرطوم إن لم يعجبهم ما ترتديه ثم لن تجد من تشكو إليه ، بل انك ويا للأسف سوف تجد من يلومك علي أرتداء القميص المخطط بألوان زاهية ! في مطعم الفندق الصغير ، فندق باناما بمدينة موشي الصغيرة ، تحت سمع وبصر جبل الكيليمانجارو جلسنا، كنا كلنا من شرق أفريقيا، غني محمد وردي ذات فخار، وكان يشير الي السودان : من قلب أفريقيا التي ... داست حصون المعتدي . الآن تنهض إفريقيا وينهض انسانها بينما انت في السودان في لهاث الصفوف ، صف البنزين ، صف الجاز ، صف البنوك ، صف الصرافات الآلية ، صف الرغيف ، بل وحتي صف انتظار الصف الجديد! أقول في مطعم الفندق الصغير جلسنا، يحكي الناس عند التقائهم عن تجاربهم في السفر ، عن حكاياتهم ومغامراتهم في المدن، يحادثون أنطونيو عن مرورهم بمطار أديس أبابا وعن ازدحام المطار ولكن كذلك عن استمتاعهم بالتوقف فيه، كذلك يحكون عن مطار جوموكنياتا في نيروبي ، وعن مطار عنتبي في كمبالا. لقد حمدت الله حين قال لي أنطونيو أنهم ظلوا بالطائرة ولم يغادروها في طريقهم للقاهرة عبر الخرطوم. والحقيقة أنني حاولت أن أدعي مشاركته حسرته علي عدم نزوله بمطار الخرطوم ، ولكن الحقيقة الأكثر وضوحاً أنني حمدت الله علي ذلك ! في مثل تلك الأماكن ، هناك تحت جبل الكيليمانجارو ، أو ربما في أماكن أخري ، حين يلتقي بك الناس من بلاد مختلفة ، فإن أول ما تحس به هو وضاعة حالك بين الناس . يحدث لك ذلك أول ما يحدث في المطارات . إن أوقفوك لأي سبب كان فستفكر أنه لن يهتم بك أحد. لن تفكر في سفارة بلادك علي الأكيد. الآخرون يجيئون محملين بطاقات الفخار وأملهم في غد أجمل ، بينما أنت تأتي محملاً بمهانات الصفوف وقانون النظام العام وهلمجرا مما لا يمكن له أن يخطر ببال الناس في الألفية الجديدة. في مثل تلك الأماكن تختبر إحساس حب الشباب علي وجه المكان ، لا مناص منه ولكن ما العمل ؟ في مثل تلك الأماكن تختبر إحساس كونك عالق بين عالمين ، ثم تكتشف أنه ، وياللأسف ، لا أحد ، وأكرر لا أحد في هذا العالم يأبه لك أو لخرافاتك في تلك البلاد البعيدة ، إنما من يقنع الديك عنا ؟ والسلام علي تلك البلاد. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.