للدكتور النور حمد، أطروحة فكرية، مفادها أن سيادة (العقل الرعوي) على السلوك الجمعي هو أحد أهم أسباب تردي الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في السودان، لأن تلك الذهنية المسيطرة جعلت طليعة العمل العام في السودان، لا تستزيد من دروس وعبر التاريخ، ولا تستخلص من تجارب الماضي ما يفيد المستقبل. هذه باختصار هي الفكرة المحورية لدكتور النور حمد، الذي يلحق أطروحته هذه بقراءة التطور السياسي من زاوية أن حقبة (التركية السابقة) كانت قطعاً لمسيرة التطور الداخلي والحاقاً لبلادنا بالدولة المصرية،، ومن يومها يرى د. النور، أننا أصبحنا تُبعاً، بصيغ مختلفة للخديوية المصرية. ينظر د. النور إلى تلك الخديوية، كما لو أنها ذهان يسيطر على عقل النخبة المصرية، ذلك الذهان يتجلى بوضوح في سياسة تلك النخبة ومواقفها تجاه السودان، يضاف إلى ذلك إذعان بعض قياداتنا لتلك التبعية، التي يقترب د. النور كثيراً من وصفها، كأنها عمالة أو خيانة. من هذه الزاوية، يبدو د. النور كمن يُعلِّق أزماتنا الداخلية على مؤامرات تحيكها مصر، فهو يرى أن الناصرية مثلها مثل حكم آل محمد علي، لم تتخلَ عن استقصاد السودان وتمسكت بتبعيته لها، بأطروحة أخرى هي القومية العربية. يقول هذا دون أن يتغافل عن أن أزمتنا هي في الأصل إدمان النخبة للفشل في إدارة التنوع،، ويعطي أمثلة لذلك، منها قوله إن ما حدث في أكتوبر 1964 (كان انفعالاً لا ضرورة له)، بالنظر إلى أن الحُكم العسكري كان (أكثر إبداعاً) من كل الحكومات الوطنية التي تعاقبت بعد الاستقلال وحتى الآن. حين نتفحص هذا الرأي تجده يتناقض كلياً مع أدبيات الفكرة الجمهورية، التي تعتبر أكتوبر ثورة من أجل الحُرية.. هذا وحده يستدعي السؤال: من أي منصّة د. النور حمد، الذي تستقبله المنابر كأحد أهم تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه؟. الدكتور النور لا يتأخر عن الإجابة على هذا السؤال، ويقول بكل وضوح، إنه يتحدث كأكاديمي، ليس له التزام بأية جهة أو حزب. ولكن،، لكن هذا التحرر، أو ذاك الوقوف في مفترق الطرق، أو هذا البوح في الهواء الطلق، هل يسمح لدكتور النور، بما عرف عنه من انتماء صميم للعدالة الاجتماعية وللجمال، هل يسمح له بالقول، إن الإنقاذ ستكون جزءاً من المستقبل، وأن على كافة القوى الوطنية التحضير للمشاركة في انتخاباتها، وأن عليهم الاستعداد للتشاور معها في شؤون الغد، لأن تغلغل كيانها التنظيمي داخل الدولة، يجعل القضاء عليها بمثابة ضربة قاصمة للدولة؟!. إن كان ذلك كذلك، فنحن نقول، إن دحض أكتوبر يعني في نهاياته دحض انتفاضة أبريل، ويعني أيضاً دحض حصاد الثورتين.. صحيح أنهما لم تحققان الحلم الوطني، لكن أهم حدث بعد اندلاعهما كان التأكيد على مبدأ أن الحرية أثمن من الخبز، وأن الثورة تجب ما قبلها من تشكيلات تنظيمية زائفة.. هذه هي سُنة التاريخ الماضية حتماً على اللاحقين، كما سرت في السابقين.