بدأت قصتي مع كتاب "امبراطورية رابح" في منتصف العام 1982، إذ استدعاني ذات يوم أستاذنا المرحوم بروفيسور محمد عمر بشير إلى مكتبه بجامعة الخرطوم، وسلمني نسخة من هذا الكتاب، الذي وصفه بأنه كتاب نادر صدر بالفرنسية في باريس عام 1950 ، بعثها له سفيرنا في انجمينا، تشاد، وقتئذ، السفير الطيب أحمد حميده، عليه الرحمة . كان بروفيسور محمد عمر بشير يتحدث عن الكتاب بحماسته المعتادة إزاءكل فكرة أو مشروع يتجاوب معه تجاوب العلماء. ووصف علاقات السودان مع بلاد الجوار الافريقي غربا، تحديداًمع تشاد، بأنها علاقات راسخة في التاريخ، بيد أنها ما زالت تحتاج لكثير من البحث والتقصي في طبيعة تخلّقها وتطورها والوقوف على مترتبات التداخل السوسيولوجي والثقافي العميق الذي حدث بين البلدين عبر الحقب. وقال إن إتاحة هذا الكتاب للإطلاع سوف يكون بمثابة فتح لصفحات يجهل عنها الباحثون والمسؤولون في بلادنا الكثير، وبداية لتعميق دراسات علاقات السودان عبر القرون مع جواره الغرب أفريقي. وأذكر أن البروفيسور ذكر لي أن أحد شباب الدارسين المجتهدين بمعهد الدراسات الافريقية والآسيوية يعكف على إعداد بحث أكاديمي عن رابح لنيل درجة علمية، وآمل أن يكون قد فعل. بناء على ما تقدم، أوعز لي البروفيسور أن أنجز نسخة عربية من هذا السفر القيّم. وأصدق القاريء الكريم أنني لم أستشعر ، حينئذ، ذات الحماسة التي أبداها البروفيسور إزاء ذلك الكتاب، لعله قصور أو عدم إدراك من جانبي، ولكن المحبة لأستاذنا العزيز حملتني لتلبية طلبه. بعد فترة، أتيت إليه وسلمته نسخة عربية كاملة ومستنسخة على "التايب رايتر" من كتاب "امبراطورية رابح" وتلقفها ، عليه الرحمة ، بسعادة بالغة ثم كتب ورقة بخط يده، ما زلت أحتفظ بها، موصياً بنشر الترجمة العربية. لكن شاءت إرادة الله أن ينتقل البروفيسور محمد عمر بشير إلى الرفيق الأعلى عام 1992 ، قبل أن يشهد نشر الكتاب بالعربية. وشاءت إرادة المولى كذلك أن أدرك أسباب ومرامي وحماسة البروفيسور لهذا السفر النادر بعد ثلاث سنوات على انتقاله، أي بعد عشر سنوات على إعداد النسخة العربية. كان ذلك في العام 1995، حين أتاحت لي ظروف عملي زيارة انجمينا، العاصمة التشادية، لأول مرة ، إذ كنت برفقة السيد أحمد الحارثي الوردي، من المغرب الشقيق، والذي كان في ذلك الوقت مدير عام المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا. التقينا بالرئيس إدريس دبي في القصر الرئاسي. كانت الزيارة لبحث آفاق التعاون مع الجمهورية التشادية في تمويل مشروعات التنمية الاقتصادية ذات الأولوية. وما زلت أتذكر حديث الرئيس دبي في ذلك الاجتماع، وقد بدا مهموماً بمشروعات المياه وبناء السدود للتنمية الريفية. كانت مشروعات تطوير الزراعة والثروة الحيوانية والرعي تحظى بأولوية في برنامج الحكومة التشادية. تلك كانت هي الفترة التي ظهر فيها إلى السطح المشروع التشادي الاقليمي العملاق والطموح لحجز مياه بعض أفرع نهر الكونغو في شمال شرقي جمهورية الكونغو وقيام سدود للتحكم في تصريف المياه ونقلها عبر جنوبيأفريقيا الوسطى حتى بحيرة صناعية لتخرج منها قناة طولها 1350 كيلومتر لنقل المياه باتجاه خط تقسيم المياه بين حوض نهر الكونغو وحوض ووادي نهر شاري لتنتهي عند بحيرة تشاد بهدف تغذيتها وتطوير الإقليم بأكمله. بحسب الدراسات، كانت بحيرة تشاد مهددة بالانحسار المضطرد والزوال في عشرين سنة ما لم يتم عمل شيء ، وقد حظي المشروع بمباركة وموافقة دولتي الكونغو وافريقيا الوسطى عل مرور المياه عبر أراضيهما . آه... بحيرة تشاد... حوض نهر شاري.... تلك إذن هي البقاع التي شهدت قيام امبراطورية رابح وأيام مجده وصولاته ومعاركه مع الفرنسيين! لقد كان من أكثر ما لفت انتباهي في الزيارة تلك الحميمية الفائقة لأهل تشاد تجاه السودان والسودانيين، فأنت في أسواقها كأنك في أسواق السودان الريفية، في الأبيض أو الدمازين أو أبو جبيهة أو فاشر السلطان ، السحنات .. الهمهمات .. أصوات المغنيين السودانيين تخرج من المذياع عبر منعرجات أسواق انجمينا وكأنك في أسواق نيالا أو الجنينة، ومثلما الحال لجوار السودان الشرق أفريقي، مع أثيوبيا وارتريا، فأنت هاهنا وهنالك تدرك على الواقع وللتو الأثر والمثاقفة البائنة لتلك الشعوب مع السودان. حقاً، آن أوان الانتباه بمزيد من الاهتمام لتطوير العلاقات مع جوارنا الشرق والغرب أفريقي ، ونحسب أنه الامتداد الطبيعي التاريخي لتلاقح وتمازج الثقافة السودانية أفقياً عبر الساحل الأفريقي أكثر من أي تمازج مع أمكنة أخرى. إن مراجعة حقائق الجيولوجيا ، قبل حقائق الجيوبولتيكا، تثبت أن جوارنا الأفريقي، عبر الحقب السحيقة، لم يعبر منه قط إلى السودان إلا الخير . لقد تكوّنت أرض السودان ، جيولوجياً ، قبل نهر النيل . فالصدوع التي حدثت جرّاء الأخدود الأفريقي الشرقي العظيم، منذ ملايين السنين، اخترقت أرض السودان من الشرق باتجاه الغرب، في اقليم اخدودي عبر في خمسة مناح فنتج عنها تكوين الرسوبيات الطينية العميقة التي أوجدت ما يعرف اليوم بالسهول الطينية الوسطى في السودان The Central Clay Plains of Sudan ، وجعلتنا نفاخر بحيازتنا لأكثر من 200 مليون فدان من أخصب أراضي القارة. لقد عبر صدع من صدوع الأخدود الأفريقي الشرقي باتجاه البحر الأحمر فكوّن دلتا القاش وطوكر ، وآخر اخترق سهول البطانة الغنية غرباً فكوّن سهول إقليم وادي الهواد الخصيب الذي أطلق عليه الإغريق، على عهد هرودتس، إسم "فردوس أفريقيا" ، ثم صدع ثالث بطول غربي النيل الأزرق تكونت جرائه سهول الجزيرة، وصدع رابع غربي النيل الأبيض تكوّنت بعده سهول الصعيد الخصبة .. من المقينص وعبر شمال كردفان حتى الباجه الممتدة إلى بعيد غربي دنقلا، أما الصدع الأخير فقد اخترق جنوب كردفان حتى دارفور الكبرى فتكونت منه الأراضي الخصيبة هنالك. ثم أعقب ذلك الخير كله تدفق النيل، سليل الفراديس، بفرعيه، من وسط أفريقيا ومن الشرق. أجل، لم يأت إلى السودان من أفريقيا عبر الأزمنة السحيقة إلا الخير. هذه خلفيات نحسبها مدعاة، في حد ذاتها، لتنبيهنا إلى تطوير الآفاق الجيوسياسية لبلادنا (بلد الخير) مع جوارها الأفريقي. عودة إلى زيارة العمل تلك: بإيجاز، لقد قيّضت لي حينئذ، وحينئذ فقط، أن أدرك مرامي حماسة أستاذي بروفيسور محمد عمر بشير لكتاب "امبراطورية رابح". هذا كتاب نادر يحتوي معلومات يسردها مؤلف هذا الكتاب ، المرحوم الأستاذ " جمَّاع أرباب بابكر " ، الذي هوأحد أبناء أمراء القائد الأسطوري رابح الذين كانوا حوله حتى استشهاده حين قطع الفرنسيون رأسه وقذفوا به في نهر شاري ، كما تزعم بعض الروايات. منذ الزيارة التي قام بها الباحث الراحل الأستاذ الطيب محمد الطيب، رحمه الله، إلى تشاد وما كتبه بعد عودته عن رابح استناداً على ما جمعه من معلومات هناك، وباستثناء الكتاب الذي وضعه الجنرال الفرنسي " إيميل جانتي " Emile Gentil في كتابه: " سقوط امبراطورية رابح " ووصف فيه معاركهم مع رابح، لم يلتفت أحد إلى ذلك التاريخ الذي طواه النسيان. فماذا فعلنا نحن يا ترى لتخليد ذكرى رابح؟ أخيراً، لابد من الإشارة إلى أمرين هامين: أولهما أن هذه الطبعة العربية لم تكن لترى النور لولا ملاحقة الأخ العزيز والكاتب النحرير السفير الدكتور خالد فرح، الذي بإصراره وصبره إزائي تم بحمد الله الدفع بهذا الكتاب إلى المطبعة، فله الشكر والثناء. ثانياً، وبعد فإن هذه الترجمة العربية لكتاب "امبراطورية رابح" مهداة إلى روح رابح في الخالدين وأرواح من ذهبوا معه ، ومن بينهم والد مؤلف هذا الكتاب ، الذي هو سوداني الأصل ، تعود جذوره إلى أرومة ودوحة باذخة، ألا وهي عشيرة العبدلاَّب بالحلفاية ، والذي التقطه جنود فرنسا هو ومن معه من أبناء الأمراء بعد هزيمة رابح وأودعوهم دير الكنائس في ليبرفيل لينشأوا في كنف امبراطورية فرنسا الافريقية، وإلى روح بروفيسور محمد عمر بشير، وإلى روح السفير الطيب أحمد حميده (وهو أخي بالمصاهرة حيث أن زوجتينا شقيقتان) وإلى روح الأستاذ الطيب محمد الطيب، وإلى الدارسين والباحثين في معاهد ودور العلم في بلادنا ، عسى بل لعل يعيدونها سيرة مجيدة ويمنحونها حقها.. سيرة رابح... أحد أفذاذ السودانيين الذين طواهم النسيان . ولن يفوتني بالطبع أن أتقدم بجزيل الشكر والعرفان في الختام ، لهيئة الخرطوم للصحافة والنشر ، على التزامها بطباعة الترجمة العربية لهذا الكتاب ونشرها ، فلها مني خالص الثناء والتقدير. د. محمد عطا المنان عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.