عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. مدخل يعيد التاريخ تمظهراته وتجلياته ودوران حلقاته وأحداثه في كل المجتمعات وتخضع المجتمعات البشرية بصور شتى لذات مكونات الصراع الاجتماعي في أوقات تتقارب وتتباعد، في كل ذلك فالثابت الوحيد في كل المجتمعات هو التوق الغريزي عند الإنسان نحو الحرية والعدالة. الثورات الشعبية أحد تجليات الصراع الاجتماعي، ورغم اختلاف المجتمعات والجغرافيا، لكن يظل الفاعلون هم نفس المكونات، شعب أعزل في مواجهة سلطة طاغية، شعب يطلب الحرية وسلطة تمارس القمع والبطش. ومن كثرة ما تكرر هذا المشهد حتى كاد الناس أن يحفظوا تفاصيله ومشاهده خاصة في عصر الوسائط الاجتماعية والقنوات الفضائية التي تنقل الأحداث لحظة وقوعها وهو الأمر الذي ضيق الخناق على الطغاة وزبانيتهم، لأن الكذب على الشعوب أصبح يحتاج لقدر كبير من الذكاء والحنكة والدربة، وهو الأمر الذى يفتقده الطغاة وخدامهم. درس من التاريخ دعنا في هذا المقال نعود في عجالة بالقارئ للوراء قليلاً وتحديداً لإكتوبر 1956 عند تدخل الجيش الأحمر لقمع الثورة المجرية لنكشف الفارق بين القيادات الوطنية التي تحمى شعبها وبين مواقف خدام الطغاة. في ذلك العام كما يذكر "فاسيلى ميتروخين" الضابط السابق فى ال " كى جى بى" او جهاز مخابرات روسيا الشيوعية في كتابة " أرشيف ميتروخين" الذى نشره العام 1999، خرج مئات الالاف بل ربما الملايين من المجريين مطالبين بخروج القوات الروسية من بلادهم وبإجراء إصلاحات سياسية و انتخابات ديمقراطية.. وعندما اشتعلت المظاهرات وملأ المجريون من كل حدب وصوب الطرقات، وأصبح واضحاً أنهم سيسقطون الحكومة الشيوعية التي تخضع لروسيا، طار الجنرال الروسي " إيفان إليكساندروفيتش سيروف" مدير ال كى جى بى، الى بودابست العاصمة المجرية للسيطرة على الأوضاع عن قرب وإنقاذ الحكومة العميلة. وكما يورد " ميتروخين" في مواقع مختلفة من الكتاب كانت روسيا الشيوعية تسيطر سيطرة شبه مطلقة على الأحزاب الشيوعية حول العالم، ولا تملك تلك الأحزاب أن ترفض لها أمراً، تقرر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي السياسات والأهداف للأحزاب الشيوعية الأخرى، ثم يتولى ضباط ال كى جى بى الإشراف والتأكد من التنفيذ على أرض الواقع في دول العالم المختلفة، لا فرق إن كانت تلك الأحزاب في دول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا او في افريقيا وأمريكا اللاتينية. وال كى جى بى كما يورد الكاتب "ديفيد يلوب" في كتابه " إصطياد الذئب او مطاردة كارلوس" – الغريب ان كارلوس أعتقل في السودان – كانت أخطر جهاز مخابرات في التاريخ على الإطلاق، لم تعرف البشرية جهازاً مثله في السابق ولن تعرف واحداً آخر بعده حسب تقييمه. إذن، طار الجنرال "سيروف" الى بودابست لإنقاذ الحكومة العميلة والجماهير تزأر في شوارع المدينة وطرقاتها. حال وصوله طلب سيروف اجتماعا طارئ مع قيادة وضباط الأمن والمخابرات وقيادة وضباط الشرطة، ثم خاطبهم بإدانة واضحة لترددهم في إطلاق النار على المتظاهرين:" لقد أخرج الفاشيون والإمبرياليون قواتهم الى شوارع بودابست، رغم ذلك هنالك رفاق في القوات المسلحة لهذا البلد يترددون في استخدام السلاح" (ص 323). تولى الرد على الجنرال الغاضب، الجنرال ساندور كوباسيسى مدير عام الشرطة المجرية– سيلتحق بالثوار – و بلغة حملت الكثير من الازدراء قال :"من الواضح أن الرفيق المستشار القادم من موسكو لم يجد الوقت لمعرفة الوضع في هذا البلد. أرجو أن أخبره أن الذين ينظمون المظاهرات ليسوا فاشيين أو إمبرياليين، إنهم من الجامعات، أبناء وبنات المزارعين والعمال، وهم أفضل أزهار النخبة في بلادنا، إنهم فقط يطالبون بحقوقهم"! بعد ربع قرن من الزمان من تلك الواقعة قال كوباسيسى الذي تمكن من الهرب للغرب، أنه لا يزال يذكر النظرة القاتلة من عيون سيروف الحديدية وتهديده له:" سأشنقك على أطول الأشجار في بودابست". "I'm going to have you hanged from the highest tree in Budapest" (P 324). لم يكن الجنرال سيروف إلا وجهاً للطغيان وإن تسربل بشعارات العدالة الاجتماعية يستوي في ذلك تماما مع دعاة الإسلام السياسي، فاليسار المتطرف واليمين المتطرف في حقيقتهما وجهان لعملة واحدة اسمها الطغيان، وإن اختلفت شعاراتهم ومنطلقاتهم. فباسم محاربة الفاشية والإمبريالية، استرخص سيروف إراقة الدماء، وباسم إقامة الدين والشريعة يسترخص هوس الإسلام السياسي إراقة الدماء. وفى الحالتين نتيجة الطغيان واحدة، خراب المجتمعات ودمار البلاد. كما لم يكن قائد الشرطة كوباسيسى غير إنسان انحاز للقيم الإنسانية ولضميره ولحق شعبه في الحياة الكريمة لم يرهبه ما يمكن أن يلحقه من أذى، فالقيم الإنسانية والأخلاق الفاضلة ليست حكراً على المسلمين، بل المؤسف أن المسلمين حالياً أكثر من يتنكرون لها، رغم أن آيات كتابهم تذكرهم بها صباح مساء! والأكثر أسفاً أن الجرائم واستباحة الدماء والحرمات التي ترتكب حالياً في السودان، ترتكب باسم الإسلام والشريعة، وهذا أكثر مدعاة للسودانيين للثورة حتى ينقذ السودانيون دينهم مما لطخه به هؤلاء الطغاة. مثلما امتحن ذلك الموقف العصيب معدن كوباسيسى وحبه لأبناء بلاده، تمتحن الثورة الحالية في السودان معادن قيادات الشرطة السودانية وغيرها من أجهزة الأمن. وإذ أكتب؛ لست معنياً بحزب الطاغوت الذي يتبرا حتى الشيطان من أفعال قياداته واستباحتهم للدماء والأعراض، وقد كتبنا عن تلك الأفعال ولم نترك متردماً، وكتبنا حتى نضب قاموسنا من مفردات الشر ومترادفاتها، كل ذلك ولم نوفيهم حقهم! لكنى أكتب عن حسن ظن اتضح أنه ليس في مكانه، إذ ظننت مخطئاً أن من بين قيادات الشرطة مهنيين ووطنيين تهمهم حياة شعبهم، وللأسف اثبتت الأحداث خطل ذلك الظن والتوقع، وهو ظن آثم اسأل الله أن يغفره لي. خرج علينا أمس الأول اللواء هاشم على عبد الرحيم الناطق الرسمي باسم الشرطة قائلاً:" الشرطة يا إخوتي لا تستخدم الرصاص في أي موقع من مواقع التجمعات او أي موقع آخر... الشرطة اصلاً لم تستخدم الرصاص...!" (تسجيل فيديو، موقع صحيفة الراكوبة 18 يناير 2019). هكذا قال فضّ فوه. أسوء ما في ذلك القول هو الافتراض الضمني بأن المتلقي سيفهم أن الشرطة بريئة وأن صفحتها بيضاء فيما وقع من جرائم يشيب لها الولدان وتنفطر لها الوجدان! الشرطة يا جنرال الغفلة ليس مهمتها ألا تطلق الرصاص على العزل وتقتلهم، بل من صميم مهامها حماية أرواح الناس ومنع الجريمة وملاحقة المجرمين، ولذلك يقع عليها واجب اعتقال من يطلقون النار على المواطنين العزل وتقديمهم للمحاكمة. ولا توجد جريمة في حق الأفراد أكبر من جريمة القتل العمد. وطالما تقاعست الشرطة عن اعتقال الجناة فهي متواطئة في الجريمة لأنها ببساطة تتستر على القتلة. لم يعد بإمكان الشرطة الادعاء بأنها لا تعرفهم، فعدد غير قليل من أولئك القتلة والبلطجية الذين ينتهكون حرمات الأسر ويروعونها معروفين بالاسم ومكان السكن والقرية والمدينة، وجرائمهم موثقة بالفيديو. كل ذلك والشرطة تتظاهر بأنها لا تعرفهم، رغم ان كامل الشعب السوداني يعرفهم ويعرف الكثير عن تفاصيل حياتهم، رغم أن ذلك ليس من مسؤولياته! إن التواطؤ الذي تمارسه قيادة الشرطة وتخاذلها عن القيام بواجبها الدستوري يضعها بكاملها، قيادة وضباطاً وجنوداً تحت تهمة التستر على القتلة، والتقصير الفاضح في القيام بالمسؤولية التي أدوا القسم للقيام بها. وطالما افتقد جنرال الغفلة، المهنية، بل افتقد حتى المروءة والدين، كان عليه أن يلتزم الصمت، حتى لا نضطر لتذكيره بأبجديات مهنته! ترى على من تكذبون، ولمصلحة من تتواطؤون والدماء والحرمات والأعراض تستباح أمامكم، وما هي قيمتكم كبشر، دعك من رجال شرطة زعموا انهم سيتصدون لمهمة جلل هي حماية دماء الناس وأعراضهم وحرماتهم! أثبتت وقائع كثيرة أن جهاز الشرطة تحت الإنقاذ أصبح جهازاً خربا وفاسداً، يحتاج الى إعادة بناء من أساسه، فجهاز الشرطة جهاز حساس تنهار العدالة بكاملها إذا فسد، وسيكون من أوليات الثورة إعادة بناء الشرطة وتأهيلها وإعادة الكفاءات التي شردت لها! وواقعة رئيس شرطة بودابست مهداة لقيادات الشرطة، إن تبقت فيهم ذرة نخوة من مهنية، أو وطنية او دين!