فى تاء التانيث تكمن شفرة الوجود حياةً ورحيلاً .. كانت الأرض أولاً ثم كان الإنسان ومن طينة أديمها خلق، فهي أمه وهذه الأرض (أنثى) .. والحياة كانت قبلاً ومن روحها الساري بُثت في الأحياء فدبت فيهم حركةً و حرارة فالحياة أم الأحياء و الحياة (أنثى). وفي البدء كانت الكلمة و منها تشّرع الكلام و تفرع ومن رحمها ولدت كل مظاهر التخاطب والتفاعل والتحاور فالكلمة هي أم المتكلمين، والكلمة (أنثى). إن مظلة القيم التي تظلل صفة الأنوثة لهي مظلة واسعة الطيف غنية الألوان زاخرة بالتنوع و التعدد، وحتماً كانت حكمة الله منذ الأزل حائطة بما أودعه في الأنوثة من عالي المضامين وجميل الشيم وبديع الصنع فأنّث سبحانه لأجلها صفات الوجود الكبرى وقيمه العليا. و إذا ما عجمنا و محّصنا و مخّضنا كل صفات التأنيث التي جعلها الله عناوين وأسماء لصفات الوجود وقيمه، فلا شك أن صفة (الأمومة) هي الأجل والأنقى والأقدس عند الله والناس .. فمن حبل الأمومة السُّري تسري مظاهر الحياة في الأجنة ومن عنايتها و رعايتها تنسرب المعارف في الطفولة الباكرة و الِصبا كما في الفتوة و الشباب ومن فيض حنانها يستمد الكبار مهما كبروا مدداً لا ينقطع من المعنويات والمحفزات وجميل الصلات. والامومة بمعناها الشامل الفسيح ليست فقط ما نشاهده دائماً ماثلاً أمام أنظارنا في مشاهد الأمومة الطبيعية بين الوالدة ومولودها لكن الأمومة فعلها متعدي متجاوزاً للأمومة النمطية الطبيعية فهناك أمهات للمعاني و لادات للمكارم و الفضائل والندى مرضعات للعفاف و الجمال والهدى، وهن على مسرح الوجود وسفر التاريخ يجود بهن الزمان و لا يبتذلهن .. هن تلكم الفاضلات الكريمات النقيات الناشرات لعالي القيم و المضامين بفعلهم الأمومي المتجاوز لأبناء بطونهن و الشامل لمحيطهن. من التأريخ يأتينا نبأ عن نسو ِة ِ أطلق عليهن (أمهات آبائهن) فمن هي (أم أبيها) إن لم تكن هي تلك المرأة ذات الفعل الأمومي المتعدي المتجاوز لمن ولدتهم .. إنها تلك الطفلة التي تنزل من بطن أمها وعلى محيّاها ترتسم ملامح أمومتها الباكرة تكبر معها يوماً بيوم و عاماً بعام تشع بأمومتها الباكرة هذه على والديها و إخوتها صغاراً وكباراً، ثم على أسرتها و محيطها .. أم أبيها هذه هي التي يزيدها العُرف السوداني النبيل دلالاً و تيهاً ثم ألقاً و بهاءً حين يطلق عليها (ست أبوها) .. بين يدي الموت و جسر رحيله المنصوب فوق رؤوس الخلائق - فالكل وارده و عابره - وبين يدي الرضا بقضاء الله و أمره الذي لا مرد له نحتسب عنده حامدين إنسانةً أنموذجاً وإبنة وأخت أنموذجاً وزوجة أنموذج و فوق هذا و ذاك و ذلك (أُمّاً) أنموذجاً فيها كل صفات الأمومة التي أتينا عليها آنفا .. هي بحق أم أبيها و هي بصدق (ست أبوها) إنها فرع وارف ظليل من دوحة آل الشريف الهندي السامقة المكتنزة بالمآثر و جلائل الاعمال و جميل الخصال المحتشدة بالقامات من ذوي الهمم العالية و العطاء اللامحدود. إن الراحلة عنا شموم الشريف عبد الرحيم الهندي كانت تتمثل فيها كل صفات و مآثر آل ود الهندي وتتجسد فيها .. كانت تمثل شرفهم الباذخ جميعاً أمواتاً و أحياءً، تضع إرثهم بين عينيها و تسير بدفعهم بين الناس. اسماها ابوها تيمناً بجدته شموم والدة القطب الربانى الاشهر الشريف يوسف الهندى .. شموم الجدة هي سليلة الأرباب أحمد ود الزين السرورابي أحد زعماء ومكوك الجموعية الكبار فيه و في بيته ثراء عريض وهيط في المال و المكرمات و فيه عزة قعساء .. إختارتها عناية الله و ساقت لها قطب قراءات و علوم القرءان في القطر السوداني الشريف محمد الامين الهندي الذي تنتهي عنده جل أسانيد القّراء والحفاظ .. لم يسبقه في علم القراءات سابق و لم يخلفه لاحق فاقترن بها ومضى بها إلى فج بعيد عن مرابعها و مراتع صباها، وبعد تسيارٍ طويل كعادة حملة القرءان عبر حقب التاريخ تشطّت بهم غربة النوى أفانين في الآفاق مفترقات إلى أن حطت بهما المشيئة عند (نوارة) الرهد فكانت أول جامعة لتحفيظ القرءان الكريم و تدريس علومه أمها الألوف الكثيرة من الُحفاظ و الدُّراس و الذُّكار كلٌّ يبغي مبتغاه و يريد ليلاه و عند ود الهندي المبتغى و الليلى والضالة .. ذلك كان هو المشهد في ظاهره، لكن للمشهد خلفية كانت بمثابة القرار ومنصة الإنطلاق التي كانت تنطلق منها سليلة المكوك الأرابيب شموم لتمارس دورها الأمومي العابر نحو الأفق الإنساني المفتوح على المطلق .. كانت شموم تتعهد الزاد و الُرقاد و تُهيءالأسباب للزوج وللطلاب و الأضياف. للحبل الُسري قفزات عبر الأجيال وللجينات في تسلسلها تنحٍ وظهور .. فمن فاته رؤية مشهد شموم الجدة في نوارة الرهد مع ود الهندي الجد ولم يسعفه الخيال لصنع الصورة القريبة من الأصل فما عليه إلا أن يستدعي الذاكرة القريبة ليشاهد فيها بجلاء صورة شموم الحفيدة الفقيدة تعيد للبصائر و الأبصار دور الجدة مع الجد لكنه هذه المرة مع العم و ما أدراك ما العم إنه الشريف الحسين الهندي أيقونة الثوار و أباة الضيم عبر التاريخ، فقد كانت له شمومه كما الجد تماماً. كان ضيوف الحسين الشهيد بالألاف وكان مرضاه بالالاف وكان طلابه بالألاف، وحقاً أقول كان كل هؤلاء ضيوفاً ومرضى وطلاباً لشموم تُمارس نفس دور الجدة تتعهد الزاد و الرقاد كأن دورها (أن ترطب لهم هجير الغربة و تحدو لهم ركب العودة الحثيث) كما عبر عن ذلك عمها الراحل الشريف زين العابدين. الغربة في أوروبا ليست كالإغتراب في المهاجر العربية، فهي غربة قاسية كقسوة أرضها و طقسها .. كانت شموم متحملة لكل ذلك بلا كلل أو ملل لا تفارقها الإبتسامة وتلازمها النكتة والظرافة وسرعة البديهة والتلقائية والمباشرة في الخطاب، لا تعرف المداورة و لا المداهنة .. كانت صفة الأمومة فيها عابرة وشاملة لكل من حولها كانت بصدق أماً لعميها الحسين وزين العابدين و لزوجها صديق ولنا نحن جميعاً بأزواجنا و أولادنا و لكل مرتادي المنافي الأوروبية طلباً للشفاء أو للعلم أو للسياسة، فضلاً عن أبناء بطنها. . هذه الأمومة المكنونة في شموم و الطافحة من كل افعالها و تصرفاتها هي عين حقيقة ذاتها و ترجمان لسان حالها .. هذه الأمومة التي أعنيها صدمت بها شموم الإنجليز حضارياً، وفي عقر دارهم و معقل حضارتهم، فشموم هي صاحبة الدار ذاتالباب المفتوح الذي لا يقلق .. وشموم هي التي كانت تأتي بمن يصادفها من أطفال وصبيان الحي فى ضاحية ايلنج بلندن تطعمهم طعاما لا يرونه فى منازلهم كماً و نوعا، و كانو يستغربون .. كنا نسمع بالدعوة لله باللسان و بالفعل، لكنشاهدنا الدعوة بالفعل .. فلقد اعتنق بول وبعض رفاقه الاسلام حباً في افعال شموم وما كانوا يرونه و حسن اسلامهم. كانت شموم جبلاً من المكارم والقيم النبيلة .. كانت ندية اليد وكريمة المسلك. تكفل اليتيم و تطعم الجائع و تكسو العريان. موائدها مشرعة طيلة اليوم و طوال الاسبوع، يعانق الغداء فيها العشاء و كثيرا ما تنتقل بها الى بيوت الاخرين فرحة بمولود او كرامة لمريض تعافى او قادم من سفر بعيد .: دارها قبلة للاهل والاحباب والغرباء وضيوف الهجوع .. كانت مثل شجر التبلدي شامخة بكبرياءها و عفة نفسها .: ومن اسرارها العجيبة ما اتصفت به من وفاء .. الوفاء عند شموم كان قيمة انسانية رفيعة تخلقت بها طوال حياتها، لذلك كله اتى خبر رحيلها صادماً و مترعاً باحساس الفجيعة و مشبعا بطعم السقام ..ولأيامٍ ثلاثٍ تقاطر السودانيون بكل سحناتهم السياسية و الاثنيه صوب مدينة اكسفورد لتقديم واجب الاحترام للفقيدة والعزاء لاسرتها .. وفي يوم الثلاثاء الحزين احتشد موكبهم مهيباً و حزيناً وباكياً حيث وري جسدها الطاهر بمقابر المسلمين هناك. لقد كانت شموم أيقونة للشرف الباذخ والمكرمات النديةًوالمآثر الجليلة .. رحلت عنا تاركةً فينا فراغاً لا ٰيسد وكسراً لا ينجبر ونقصاً لا يعوض، لكن العزاء في مصيبتنا فيها أنها نزلت بساحة أكرم الأكرمين و أجود الأجودين و أرحم الراحمين نسأله لها الأعلى من الجنان و الأوسع من الرحمة و الأتم من المغفرة إنه قادر على ذلك وبه جدير، ونسأله الصبر وحسن العزاء لزوجها ورفيق دربها نيفاً و اربعين عاماً أخي الشريف صديق و لبنتي لينا وابناءى ابراهيم والحسين وعبد الرحيم .. ويمتد عزائي لآل الشريف الهندي حيثما كانو ولاحبائها وصديقاتها و (حبان قساها) و هم كثر. ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.