هناك تبدّلات وتحوّلات سالبة في المجال الصوفي في بلادنا..ولكن ينبغي النظر إليها بدقة والحديث عنها برفق.. فهذا المجال لا يحتمل (الدخول الخشن) مع إن الواقع يشير إلى بعض (اللعبات الخشنة) التي أصبح يقوم بها بعض المُنتسبين إلى هذا المجال الموقّر الذي لا يقبل (الاستهبال) كما لا يقبل الطأطأة و(الغشامة) وتسييس المريدين (غصباً عنهم) عن طريق السماح للسياسيين باختراق المناسبات الدينية بالهياج السياسي.. و(هذا ما حدث بالضبط في الكريدة)..! وما كان لأصحاب الشأن في هذا اللقاء الصوفي أن يسمحوا بذلك.. فماذا يحصل لكم إذا أوضحتم لطالبي (الضيافة الجماهيرية الجاهزة) أنه لا يصح استغلال المناسبة في غير وجهتها، وأن هذه مناسبة دينية عرفانية خالصة لا تحتمل البيانات والخطب السياسية التي تنقل أجواء تعارك لا مكان له في مثل هذه الأجواء الصوفية التعبّدية الوجدانية؟! وبهذه المناسبة و(هذا الفاول) فإن التيار الصوفي في السودان عريق وركين ومكين، وهو وافر الخصب والثراء طيب الثمرات، ضارب الجذور في أغوار التربة الدكناء.. وكل العارفين يقولوا أن للتصوّف في بلادنا مسار لطيف وعجيب وتاريخ حافل بالتأسيس والتأصيل والإسهام الكبير، وليس بالتأثر القائم على المحاكاة والتقليد و(معاكم معاكم).. فالحكايات عن المتصوّفة السودانيين ملاحم لا تنتهي، ومشهود لمتصوّفتنا في سيّرهم وأخبارهم وتاريخهم بالرجاحة والحصافة والإخلاص والإخبات، وقد كان دأبهم وحرفتهم (الزهد العارف) لا زهد الجهل والتصنّع و(الشوفينية) أو زهد الدروشة و(البهدلة) ووساخة الظاهر والباطن، والغيبوبة المفتعلة والغياب عن الحق؛ بل الزهد الناشئ عن التواضع والقناعة الواثقة، ومجافاة الاستعلاء والتباهي والتزاحم على المطامع والنشب و(البياض)، مع الاحتفاظ بمسافة (فرسخية) من التكلّف والتنطّع والتزلّف والمداهنة والنفاق والانكسار الذليل..! والمتصوّفة يبذلون الطعام ويفشون السلام ويأمرون بالمعروف..لا يطردون جانحاً ولا يقنطون من رحمة الله أن تشمل الخاطئين.. وهم أصحاب السيرة الحسنة والسريرة البيضاء والضمائر الحيّة، الذين يعفّرون جباههم بتراب مخافة الله في خلقه وحتى في ما حولهم من أحياء وجماد وشجر ومَدَرْ.. كما إن الزهد من جانب آخر لا يعني (الاستخذاء والخوف) وطلب الدنيّة في الدنيا أو الدين، أو خفض الرأس خشية من المتجبّرين مهما كان شأنهم.. والمتصوّف الحكيم "فرح ود تكتوك البطحاني" صاحب الرؤية المتقدمة الذي صاغ آيات من الحكمة وهو في بيدائه البعيدة في سنار وفي أعماق القرن السابع عشر.. كان يقول "يا واقفاً عند أبواب السلاطينِ/ أرفق بنفسك من همٍ وتحزينِ..! وقد كان التصوّف في السودان في أيام الله السالفات قوة ضد المستعمرين (ذوي الأنوف الحمراء) وكان مع الهبّات الوطنية ومع بذل النفوس فداءً للحرية والإنسانية، علاوة على الكد والكدح والتعليم والتأليف والتربية.. ولا يزال حتى اليوم في (كار الصوفية) مَنْ يحمل هذه السمات..ولن تعدم للحق نصيرا...! ولكن (النصيحة لله) قد دخلت إلى الحياة السودانية مستجدات (مش ولا بد) كان من بينها بعض الذين (يتشعلقون) على أبواب التصوّف، أو الذين استخلفوا من آبائهم (بغير استعداد) فلم تكن لهم روح التصوّف ولا روحانيته.. ولم يستطيعوا أن يوطنوا أنفسهم على النهج الصوفي الصحيح الذي لا يعرف الخوف و(الرجفة) في أوان إبداء الشجاعة والجهر بالحق.. وما نشهده من (حركات جديدة) وما نراه من (تضعضع) حتى في بيوتات التصوّف العريقة يجعلنا نخشى أن تكون الظواهر السالبة التي ضربت بعض مناحي الحياة السودانية قد وصلت حتى للتصوّف..! فقد يقبل الناس فساد بعض (الدقيق المغشوش) الذي إصابته العتّة، أو يقبلوا بعض التخثر في (علب الصلصة) وقد يفهم الناس أن تكون هناك بعض (السلع المضروبة) ...لكن التصوّف.....!! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.