قال السفير المصري إن قواتنا المسلحة هي التي طلبت من مصر بناء الأفران. ولم يذكر إن كانت قد طلبت منه ايضاً دقيق الخبيز لهذه الأفران. وذكرتني عبارة السفير بفكاهة رواها لي المرحوم بروف عبد الله أحمد عبد الله أستاذ العلوم الزراعية وأحد قيادات نظام مايو البارزين. وكان تولى ضمن وظائفه في ذلك النظام منصب حاكم الولاية الشمالية ومركزها الدامر. وفي عبد الله حس بالفكاهة مترع من رباطابيته. وكان شيخ أبو زيد محمد الأمين الجعلي، معلمنا معاً بمدرسة عطبرة الأميرية الوسطى، يناديه ب"الرباطابي النجيض". وجمعتنا رحم الله في العقد الأول من القرن لجنة دعم مركز شيخ أبو زيد في عطبرة الذي نهض به ابنه المرحوم محمد. وقام المركز في بيت الأسرة وباشر نشاطه. ورحل محمد دون أن يكتمل المركز فصولا. رحم الله عبد الله ومعلمنا وابنه محمد الوادع البسّام. قال لي عبد الله إنه زار منطقة الرباطاب، أهله، في جولة على الولاية الشمالية. ووجد زراعتهم في حال يرثى لها. وأغضبه ذلك منهم. واجتمع بهم وثار في وجههم. وانتهى إلى تهديدهم: "والله يا أهلي الرباطاب تزرعو تزرعو وإن ما زرعتو قسماً بالله أجيب فلاحين من مصر يزرعو بدلكم". وكان شيخاً من أهله مضجعاً في ركن من الديوان فنادي عليه: "هوي يا ود أحمد عبد الله فلاحين مصر ديل بتجيبهم بدزلينهم واللا بايدينم فاضية؟" وأسقط في يد الحاكم. فقد وضع الشيخ يده على جرح المسألة. فلم تكن المشكلة فيهم ولا في طلمباتهم. كانت المشكلة ندرة الجازولين الذي أخفقت الحكومة آنذاك في توفيره. وبقيت طلمبات الماء عاطلة وابطلت الزراعة. فهمت من كلام السفير المصري أنهم جاؤوا بدعوة من جيشنا لبناء أفران. ولم تكن الأفران كمبنى مشكلتنا. فهل سيأتينا الجيش المصري بدزلينهم، كما قال الشيخ النجيض، أو بدقيقهم مسرطناً وغير مسرطن. كان السودانيون في الزمن القديم يقولون "إن شاء الله ما يجينا من الريف (مصر) إلا القماش". وقال التجاني يوسف بشير، الذي لا أعرف من أُغرم بمصر مثله سوى الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي، في العشرينات من القرن لماضي: كلما أنكروا ثقافة مصرٍ كنت من صنعها يراعاً وفكرا نضر الله وجهها فهي ما تزداد إلا بعداً عليّ وعسرا يا ابن مصرٍ وعندنا لك ما نأمل تبليغه من الخير مصرا قل لها في صراحة الحق والحق بأنْ يُؤثرَ الصراحةَ أحرى وثقي من علائق الأدب الباقي ولا تحفلي بأشياء أخرى كل ما في الورى عدا العلم لا يُكبِّر شعبا ولا يُمجّد قُطرا وصدق التجاني: ولا تحفلي بأشياء أخرى من دزلين وأفران ودقيق . . . وحلايب. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.