كثيرا ما يردد بعض السودانيين وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط مقولة أن البلاد لا ينصلح حالها إلا بحاكم عسكري، يسوق الناس بعصاه، بل يتمثل بعض من يردد هذه المقولة بالحجاج، وخطبته الشهيرة في تهديد أهل العراق، دلالة أن هذه الشعوب لا يستقيم أمرها ما لم يحكمها رجل قوي شديد البأس، لا يجادله أحد ويراجع ولا يتراجع كما ينسب لجعفر نميري. رغم ولع بعض الفئات الشعبية بالحاكم الفرد شديد الفتك والبطش، على صورة كان أبرز نماذجها في المنطقة صدام حسين، إلا أن تجارب حكم العسكريين في السودان قبل غيره من الدول الإفريقية والعربية في الإقليم، انتهت إلى حقيقة ساطعة لا يتجادل حولها عاقلان، لم ينصلح الحال بل عجل الحكم العسكري بكوارث كالتي شهدها السودان، بسبب العميد الإنقلابي عمر البشير. بالقطع، لا يستطيع سياسي أو إعلامي أو أكاديمي في عالم اليوم، أن يقدم حججا مقنعة لتبرير حكم عسكري ، فإن كانت الحجة أن الشعب غير مؤهل للحكم المدني، لفقره ومرضه وجهله مثلا، أو ضعف ثقافته السياسية، فالحكم العسكري أدعى لتوسيع قاعدة الفقر وترسيخ التأخر الحضاري، كما تبين تجربة العميد الإنقلابي الماثلة أمام الناس، وغيرها من التجارب وإن كانت الحجة ضعف قدرات المدنيين وتشرذمهم وخلافاتهم التي لا تنتهي، فها هم المدنيون يحكمون كل دول العالم المتقدمة، بل وحتى المتأخرة، مع استثناءات قليلة. إذا عجز المدنيون عن إدارة شؤون الدولة وانتشالها من الدرك السحيق الذي انحدرت إليه، فالمهمة أشد صعوبة بالنسبة للعسكريين، ولا شك أن بعض العسكريين، ربما فاق المدنيين ذكاء وألمعية ، لكن التفاعل مع التحديات السياسية والاجتماعية والتنموية المطروحة أمام السودانيين، لا يحتاج الذكاء فقط، بل المعرفة والخبرة والخلفية الملائمة، ومن الواضح أن العسكري يفتقر للمعرفة والخبرة في شؤون التنمية والسياسة والحكم، بمثل ما يفتقر المدنيون لأساسيات المعارف والعلوم العسكرية. من غير المعقول إطلاقا أن يتقبل المرء تعيين بقال أو جراح أو مصرفي أو سائق تاكسي رئيسا لهيئة أركان القوات المسلحة، وعلى ذات المنوال، يضر انغماس المؤسسة العسكرية في السياسة بكلا الجانبين، فيغيب التوازن عن المشهد السياسي، وتنحرف المؤسسة العسكرية عن وظيفتها ودورها. نرى في العالم المتقدم اليوم، نماذج لسياسيين ورجال دولة من طراز رفيع، بخلفيات وخبرات عسكرية، شقوا طريقهم بعد التقاعد إلى المعترك الحزبي والسياسي، أما الجمع بين السلطة السياسية والقوة العسكرية، في يد رجل واحد، أو عصبة، فلا ينتمي إلى دولة اليوم القائمة على تخصص الأجهزة وفصل السلطات، بل إلى السلطنات والممالك في قرون خلت. تشكيل مجلس سيادة انتقالي مدني بالأساس، هو الأصل الذي تدعمه الحجة والمنطق، كما أن التمثيل العسكري في هذا المجلس، تبرره 3 أسباب رئيسة، أولها قطع الطريق على المغامرات الإنقلابية خلال الفترة الانتقالية، والثاني إحداث نوع من التوازن بين مكونات المجلس المدنية المجبولة بطبيعة الأشياء على الخلاف والتنازع، والثالث مشاركة القوات المسلحة في إدارة الفترة الانتقالية وحضور رؤيتها وأطروحاتها في هذه المرحلة التأسيسية. إن المماطلة في تشكيل مجلس السيادة المدني، لا تصب في مصلحة أحد، فلا أفق بتاتا أمام أي محاولة لفرض الأمر الواقع، كما أن محاولات شراء الوقت والمناورة في مثل هذه الظروف العصيبة، تهدد بالإنزلاق نحو الفوضى والصراع بين مختلف قوى الثورة والتغيير، التي نظن أن المجلس العسكري الانتقالي، ممثلا في قيادته على الأقل، من ضمنها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.