بعد ان أفلحت الثورة السودانية، والتي انطلقت في ديسمبر 2018، في الاطاحة بالبشير من السلطة، عادت التيارات السلفية بقوة الي المشهد السياسي، وذلك تحديدا بعد أن أطلق دعاة وأئمة سودانيون تحذيرات من وصول الحركات والأحزاب المحسوبة على التيار الليبرالي إلى الحكم، ملوّحين بالخروج في مسيرات مليونيه الي مقر اعتصام المتظاهرين امام القيادة العامة للجيش، للتشديد على التمسك بالشريعة الإسلامية، و الإسلام كهوية للدولة السودانية، كما ظهر في مقطع فيديو متداول على وسائط التواصل الاجتماعي. الحراك الإسلامي المضاد لدعاة العلمانية بدأ بالتصاعد بسبب منشور صدر من تجمع المهنيين السودانيين عن إقامة قداس للمسيحيين في مقر الاعتصام أمام القيادة العامة. على إثره، صعّد التيار السلفي من خطابه للمجلس العسكري الانتقالي محذرا من مغبة وصول التيار الليبرالي للسلطة، وطالب بإقصائهم من المشهد السياسي، تحديدا خلال الفترة الانتقالية. لذلك فإن تصاعد موجة الاستقطاب الديني ضاعف من المخاوف المتعلقة بشأن عملية التحول الديمقراطي والتي يترقبها الشارع السوداني بفارغ الصبر. شهد السودان عددا من الاحداث المتفرّقة، والتي ربما طواها النسيان، لكنها حملت كافة سمات العمليات الإرهابية المرتبطة بالتطرف الديني. اولي حوادث العنف شهدتها مدينة ود مدني بين مجموعة من التكفيريين تتبع للشيخ محمد عبد الكريم و الأجهزة الأمنية، و ذلك في العام 1993، تلتها حادثة عبد الرحمن الخليفي، التي حصدت أرواح 27 مواطنا في مسجد الجرافة بضاحية أدرمان في العام 1994، ثم حادثة التكفيري عباس الباقر في مسجد أبوبكر الصديق في العام 2000، وخلية السلمة والتي اغتالت الدبلوماسي الامريكي جون مايكل جرانفيل و سائقه الخاص بالعاصمة الخرطوم في العام 2008، أعقبتها خلية الدندر والتي كانت تخطط لعمليات عسكرية ضد القوات الفرنسية في مالي. كما نشطت في السنوات الأخيرة العديد من الخلايا الإرهابية التي ساهمت في تجنيد وتفويج عدد مقدر من الشباب لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا. استطاع البشير أن يتعامل مع ملف الإرهاب بحنكة عالية، فقد امتلك نظامه قصب السبق في اتاحة الأجواء لتنامي التطرف الديني خاصة عندما قام بتدجين الحرب الأهلية في الجنوب وتحويلها لحرب دينية على الصليبية والعلمانية. كذلك، عبر المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، والذي أقيم في الخرطوم في العام 1991، فتح السودان أبوابه للعديد من الجماعات الإسلامية المتشدًدة، على رأسهم أسامة بن لادن، الزعيم الروحي لتنظيم القاعدة السابق. هذا التوجه جعل إدارة الرئيس الامريكي الأسبق بيل كلنتون، تتخذ قرارها بوضع السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب، الأمر الذي فاقم من العزلة الاقتصادية لنظام البشير. كذلك قامت الاستخبارات السودانية، برئاسة القيادي البارز في الجبهة الإسلامية، نافع علي نافع، بتمويل وتنفيذ عملية الاغتيال الفاشلة والتي تعرض لها الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا، ردًا على تشديد قبضته الأمنية على جماعة الاخوان المسلمين، وحظر نشاطها السياسي في مصر. بهذا الرصيد المتخم، تمكّن نظام البشير من تأسيس شبكة علاقات واسعة مع الجماعات المتطرفة، مستغلا موقع السودان الاستراتيجي المجاور لسبعة دول، الأمر الذي مكن الحركة الاسلامية من التأثير على الاستقرار السياسي في المنطقة الإقليمية. كما أسست الحركة الاسلامية جامعة افريقيا العالمية في الخرطوم، في خطوة سعي من خلالها التنظيم لأسلمة القارة الافريقية، حيث برزت العديد من التقارير التي تربط ما بين الحكومة السودانية والجماعات الإسلامية المتشددة كحركة جماعة الجهاد في جنوب مصر، وتحالف السيليكا في أفريقيا الوسطي، اضافة لجماعة بوكوحرام في نيجيريا، وحركة الشباب الاسلامي في الصومال. بدأت بوادر التعاون ما بين نظام البشير والاستخبارات العالمية، تحديدا في العام 1994، و ذلك عندما قام النظام بتسليم إليتش تيمنا بلينين، الملقب بكارلوس، للاستخبارات الفرنسية في مقابل تحسين علاقات السودان الدبلوماسية مع دول الإتحاد الاوروبي و التي كانت في غاية السوء، نسبة لتوجهات النظام الاسلامية المعادية للغرب، وهو ما أدي لتعليق طلب عضويته لمنظمة التجارة العالمية، و حرمانه من المكاسب الاقتصادية المترتبة عليها. كذلك عمل النظام السوداني علي دفع علاقته مع الولاياتالمتحدةالامريكية، وهو الأمر الذي تمّ السير فيه بجدية في نهاية التسعينيات، اذ تبادل الجانبان جملة من الزيارات السرية والمعلنة، المتعلقة بملف الإرهاب في منطقة القرن الافريقي. لكن التطور الأبرز في العلاقات الثنائية حدث خلال رعاية الولاياتالمتحدةالأمريكية، ضمن دول اخري، لمفاوضات السلام التي جرت في ضاحية نيفاشا بكينيا، والتي انتهت بإقرار حقّ تقرير المصير للجنوب في وثيقة اتفاق السلام الشامل، والتي جرى التوقيع عليها في العام 2005، و التي مهّدت الطريق لانفصال جنوب السودان في العام 2011. برع نظام البشير في استئناس الجماعات الاسلامية، واستمالتها لصفه بالعزف على وتر الشريعة الإسلامية، والذي تمثل بصورة واضحة في قانوني الأحوال الشخصية والنظام العام. كما أن نظام البشير فتح المنابر لهذه الجماعات بلا حسيب او رقيب، للتبشير بمذاهب تدعو للتطرف الديني و الإرهاب. بالمقابل، فقد ساهمت هذه الجماعات في إضفاء الشرعية الدينية على نظامه، في تحالف قوامه الاحتماء من الديمقراطية والحكم المدني العلماني. لذلك، فقد تبدت معالم إنهيار نظام البشير مع تهاوي السلطة الدينية الداعمة له، والتي تعرضت لحملة انتقادات شعبية غير مسبوقة. ومع تصدر تجمع المهنيين السودانيين وائتلاف قوي الحرية والتغيير، والذي يضم قوي سياسية علمانية التوجه، للمشهد السياسي، إضافة لالتفاف الشارع السوداني حولها، كممثل شرعي لمطالب الجماهير، تصاعد قلق الجماعات الدينية، ثم تحول القلق لغضب تجاه الخطاب الجماهيري المتزايد، والذي يصم مشروع الدولة الدينية في السودان بالفشل. جدلية العلاقة بين الدين والدولة تشكًل أحد المعضلات الرئيسية التي تواجه السودان منذ الاستقلال، وقد ساهم الإستقطاب الديني والإثني، تحديدا فيما يتعلق بهوية الدولة السودانية، في جرً البلاد لدوامة من الحروب الأهلية، والتي راح ضحيتها الملايين من السودانيين. لذلك، فبروز تيار السلفي في المشهد السياسي يتطلب -بالضرورة- ألًا تعيد القوي السياسية، الطامحة للتغيير، إنتاج العجلة من جديد، وأن تبتعد عن سياسة حرق المراحل، والقفز الي النتائج، وأن تؤكد على وجوب التوافق مع التيارات الإسلامية على الحقوق الأساسية المستحقًة في السودان الجديد، والمتمثلة تحديدا في الحريًة والمواطنة المتساوية. على القوي السياسية، أيضاً، ان تتبنّي خطابا يتسم بقدر من المرونة والإتزان، بحيث يسمح بتمثيل الحد المعقول من مطالب الجماعات الإسلامية في عملية التحول الديمقراطي، مع عدم المساومة في أهم مكتسبات الثورة السودانية، المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة. هيثم كرار باحث في شئون الحكم والتنمية الجامعة الامريكية، واشنطن عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.