لأسبابٍ عديدة، يُدرك بعضَها المقرَّبُون أكثر، تدهورت حالةُ (عليٍّ) الأجتماعيَّة. كان تشابُك الظُّروف وتكالُب المشاكل فوق طاقةِ إحتماله، وهو الذي اشتهر بين أقرانه و أقاربه بالجَلد و المُثابرة؛ وكانت قاصمةُ الظهر أن تمَّ فصله من الجامعة، بعد محاولات مستميتة للإستمرار في الدراسة فيها. و لم يكن هُناك ثمة بديل، فحتَّى و إن تمَّت مُعادلة شهادته بالدبلوم المُستحق، كان من غيرِ المُمكن أن يجد عملاً بموجبه، لأن فرصة العمل، ذاتها، كانت تتطلب ولاءً للسلطة الحاكمة يعُوزه، وواسطةً لن يجد لها سبيلاً... - يعني، أَضرب راسي فِي الحيطة؟ وولج، مُكرهاً لا بطل، ولجَ السوق، ولكن من مواقع العمالة المُباشرة و التكسُّب من اليد وعرق الجبين، لأفتقاده الرأسمال الذي يمكن أن يدخله ضمن زُمرة صغار التجار... لمّا قابلته في سوق الحي الكبير أثناء إجازتى الصيفيَّة، كانت قد مرَّت على فصله ثمانيةُ أشهرٍ، بالتمام و الكمال!... وهالنى منظرُهُ، وسآتني هيئتُهُ، وأحسست أنه يُعاني في جميع الإتجاهات ومن الكُلْ... وأصطحبته معي إلى البيت، حيث استمتع قليلاً بالحالة الأليفة هناك، أغتسل وغسل ملابسه، وأكل بنهمٍ مصدره الجوع لا سوء الخصال... وتحادثنا، عن حالِهِ وحالي وكل شيء في البلد تقريباً، واكتشفت أن ذهنه لا يزال متقدأً ويعمل بطريقة جيدة يغطي عليها منظره البائس. ونصحته صباح اليوم التالي، قبل أن نفترق، نصحته أن يعود إلى قريته مؤقتاً، كاستراحة مُحارب: إن شاء، وأن يبدأ ترتيب أموره بالتخطيط، تحت ضغوط أقل هناك، بلاشك!... و التفكير فيما يمكنه عمله من مواقعه المقترحة وسط أهله في القرية... حيث يمكنه توظيف قدراتَهُ و تميزَهُ بشكل أفضل و التحرُّك في براحات تسعهُ وتُرحِّبُ بِهِ. ودسستُ يدي في جيبهِ، و أنا أودعه، مُوْدِعَاً فيها أوراقاً مالية قدَّرتُ أنها ستُكفيه لمغادرة العاصِمةِ إلى قريتِهِ الحَبيبة، الرابِضة على ضِفافِ النيل الأزرق... بعد زمنٍ وجيزٍ إلتقيته، يبدو أنه قد ضرب بنصيحتي بالعودة للقرية عرض الحائط، أو إن التجربة فشلت أو لم ترُق له على أحسن الفرُوُض! ووجدت إن حالة قد إنقلب مائة وثمانون درجة، من حيث الهيئة واللهجة والأحلام والآمال العريضة، وقابلني هو بترحاب وبشاشة تُناسب حالته الجديدة، وأحسست أن خلف ذلك التحسُّن في حالته: إمرأة! ولكنِّي لم أسألهُ، ولم يتطرَّق هُو لسيرتها في لقائِنا الأُمدرماني القصير ذاك... ولكنِّي عرفتُ فيما بعد، وبعد مُدَّة طويلة جِدَّاً، إنَّ حدْسيَ كان صادقاً، وإن مظاهرَ الإستقرارِ التي بانت على صديقي (علي) كانت بفعلِ فاعلٍ، وإنَّ النعماءَ ورغدَ العيش والقلبَ الراقد كانت تقف خلفه وتنسج خيوطه (زينب)، تلك المرأة المُخضرمة، الغبشاء، التي كانت تتبدَّى كالأرملة أو المُطلقة... قبل أن تصير زوجةً، على سُنَّةِ الله ورسوله، لعلي. بعد زواجه أسرَّ لي علي بأن تكتمه على علاقته مع زينب، قبل الزواج، كان لعدَّة أسباب، فقد كانت هي تُمانِع خشية الفراق بطلاقٍ جديد، وكان يخشى، هُو، أن يُقدِّمها لأهلهِ ومعارفهِ بسبب شخصيتها القويّة التي بلا شك ستوصف بالقاهرة والجاسرة من أهل القرية الرابضة على النيل الأزرق... بالأضافة إلى الإختلال المالي، إذ كانت هي التي تمتلك دخلاً وفيراً من اشتغالها بالتجارة، يُقابله إعدامه بسبب العطالة والتشريد... وتزوجا سرّاً، على أن يتولَّى هُو، بوعدٍ قاطعٍ و كلام رُجال، تقديمها للأهل و المعارف، وعلى رأسِهم والدته بالتدريج، ولكن بارت الخطةُ وخاب الترتيبُ، لأنَّ زينباً حبُلت بعد شهرين من الزواج؛ مما استدعى التعجيل بإخطار الوالدة بما كان قد جرى... وكان لقائهن الأوِّل مشحوناً... لم يستطع (علي) عليه صبرا... وقبلت رغم عدم تفهمها للأمر، واعتراضها الدفين... ولكنها أصرت أن تُجرى مراسمُ الإحتفال بالزواج علناً وفي بيتها، وتكفَّلت زينب بمصروفات الإحتفال و أدارتهُ من خلفِ الكوالِيس... وأُسميت زينب وسط نساء القرية، همساً، (بالعرُوس الحامِل)، كأوّل إمرأة ترقص، علناً، على البساط الأحمر مُتلفحةً القرمصيص، بجنينٍ في بطنها عمرهُ أربعة أشهرٍ... أو يزيد. كان من المُؤمل أن تعيش زينبٌ مع زوجها في القريةِ، وقد تباحثا فعلاً حول ذلك الأمر بالجديّةِ الكافية، وفوْق أن ذلك القرار قد صادف هوىً في نفس زينب وراق لها... فقد كانت فرص (علي) فِي العمل والعيش الكريم في القرية أكبر، وجوهَّها وبيئتها بالنسبة لصحته وكفاءته أنسب... حسب ما نصحته، أنا، ذات صفاء. ولكن، طقش اللقب السرِّي (العرُوس الحامِل) أذن زينب عندما فلت من لسان فاطنة الدرويشة أمامها في مُشوار التسوُّق الصباحي، الشيء الذي لم يقف عند حد خلق جفوة بينها وبين نساء القرية فحسب، وإنما أطاح باستقرارها وزوجها وولدها الوسيم هناك بالكامل... لم تحدث مشادةٌ بين زينب وفاطنة الدرويشة، ولا مع أي من نساء القرية، لأن زينب كانت أعقل من أن تستجيب للإستفزاز البالغ الذي سببه لها اللقب، ولكنها أحتفظت بدمها يغلي داخل عروقها فحسب، وحافظت على علاقتها الودودة على مستوى الشكل على الأقل بأغلبية جاراتها و (أُم علي) على رأسهن، رغم علمها بتورط بعضهن في تداول اللقب المسيء سرَّاً، على وجه اليقين... وكان يقينُها نابعاً من أن بساطة الحياة في القرية لها وجهٌ آخر، غير طيب إن لم يكُن شرِّير، كما يتبدَّى للبعض عن طيبة القرية وكما هُو مشهُورٌ عن الحياة هناك، بساطة تفضي إلى تعقيد بالغ حينما يتم المساس بالغرباء أو البسطاء اللذين لاحول لهم، وكانت زينب متأكدة أن القرية وليس المدينة تحترم القوي أكثر، و تهين الضعيف بشكلٍ أمرُّ وأفجع. لو كانت زينب تعلم أن لقب العروس الحامل سيلد، كما ولدت هي، لقباً جديداً أكثرُ إساءة، سيطال وليدها وهو لقب (جَنا الخمسة شهور)، لصبرت على الأذيَّة في القرية، ولما تهاونت في تحمَّل إصطكاك أذنيها بلقب أسبغه عليها زواجها السري من علي. وكان ذلك اللقبُ الجديدُ لإبنها (عاصِم علي) أشدُّ قسوةً ومرارة عليها من لقبِها الشخصِي القروِي الذي فلت من لسانِ فاطنة الدرويشة: (العرُوس الحامِل). وعندما عادت هي و أسرتُها من الغُربة، بعد سنينٍ طويلة، كانت تبحث في عُيُون الناس، وبين كلماتهم، وفي ضحكاتهم عن أثرٍ وظلالٍ للقبين... ولكن، بِلا طائِل! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.