في علم السياسة هنالك مصطلحان مهمان للغاية يفرقان المواقف ويتداخلان بين الأخلاقي والواقعي. بين المأمول والماثل. بين المفترض والحقيقة ، بل وحتي بين أنواع القوة بين الفرقاء حينما يحتدم الصراع حول السلطة. هذان المصطلحان الأول منهما de fcto والذي يعني بإختصار الأمر والواقع وكل ما يحمله من مضامين قوة يرضخ لها الفاعلون شاءوا ام أبوا. المصطلح الآخر نقيضه تماما وهو de jure وهو كل ما يتصل بالقانون وما يوجبه من احترام وما يمثله من قوة شرعية أخلاقية أيضا يرضخ لها الفاعلون بقدر التزامهم به. بين هذين المصطلحين اللذين يعبران عن واقع سريع التقلب وجدت الثورة السودانية نفسها مقحمة بين معطياتهما كما سيتبين من خلال الطرح. عندما التجأ الثوار لمحيط القيادة العامة كان ذلك بهدف الاحتماء بالجيش وذلك بناء علي فرضيتين. الأولي أن هناك سلطة متمايزة عنهم يرفضونها وتحدق بهم بطشا وتنكيلا وبالتالي يريدون معادلة تلك القوة بقوة أخري هي قوة الجيش لحمايتهم منها. الفرضية الثانية أن الجيش هو مؤسسة قومية خاصة بالشعب ومناشدته للانحياز للخيار الجماهيري المتمثل في ضرورة إزالة النظام الحاكم وتسليم السلطة للشعب باعتباره صاحب الحق في الحكم. وبالفعل تحققت الفرضية الأولي وتمت حماية الثوار من بطش وتنكيل السلطة التي سامتهم شتي صنوف العذاب طوال أشهر الثورة منذ ديسمبر والي أبريل. إلا أن الفرضية الثانية لم تتحقق علي اقل تقدير بالكيفية التي أرادها الثوار برغم انحياز الجيش لهم ، فقد تحول الجيش ممثلا في المجلس العسكري الانتقالي الي سلطة حاكمة de facto. وليست مجرد وسيط بين سلطة سابقة غاشمة وجموع جماهيرية ثائرة تتطلع لحكم مدني ديمقراطي يلبي طموحها في الحرية والتغيير ، وهذه النقطة بالتحديد تزداد فاعليتها مع مرور الأيام وبسرعة مذهلة ، وأصبحت تتحقق بالتعبير الواضح في شكل مطلب متعنت من المجلس العسكري بأن تكون له الغلبة في المجلس السيادي ذي الصلاحيات غير الشكلية. فأخذ المجلس العسكري يطرح نفسه كضامن وحارس للعملية السياسية لأنه يري في نفسه القدرة علي حماية البلاد في ظروف يحاول تصويرها بالاستثنائية. بل وواصل عمله في تصريف شؤون البلاد بالقرارات المستمدة وللمفارقة من شرعية الثورة ذاتها ، فالمجلس لم يقم بانقلاب عسكري ولم يتهمه أحد بذلك. في نفس الوقت يستأثر بالسلطة بصورة كاملة وبذلك أصبح حاكما de facto اي بحكم الأمر الواقع، في ذات الوقت يحاول أن يجرد خصومه الذين ينازعونه السلطة من أي إمكانات للمناورة عن طريق تجميد المفاوضات تارة ، والتهديد تارة وربما المواجهة وهي خيار غير مستبعد من حسابات عقلية عسكرية وجدت نفسها فجأة تقبض علي زمام سلطة بالأمر والواقع ومدعومة من قوي إقليمية ترتبط معها بمصالح مباشرة ، هذا بالطبع علاوة على أن مكون المجلس العسكري الانتقالي ليست لديه خصومة بينة مع بقايا النظام القديم، لا من ناحية أيديولوجية ولا من ناحية المصالح السياسية ، والدليل علي ذلك إعادته للنقابات التي كان قد أنشأها النظام السابق لتمثل ترياقا لقوي الحرية والتغيير عند الحاجة إليها. غير أنه ومن زوايا أخري لم يستتب الامر للمجلس العسكري ، فهنالك من القوي الإقليمية والدولية الفاعلة من يلوح بعدم الإعتراف به كسلطة شرعية حاكمة كالاتحاد الأفريقي ودول الترويكا المهتمة بالشأن السوداني والتي لم تخفي موقفها من ضرورة نقل السلطة للمدنيين بشكل de jure . علي عموم الأمر، لقد باتت مطامع المجلس العسكري الانتقالي في السلطة واضحة ، فهو لم يعد ذلك المجلس غداة الانحياز للمطلب الجماهيري ، بل أصبح سلطة عسكرية حاكمة تتوثق عري حكمه يوما بعد يوم ، وهذا بالتحديد ما تُعرض قوي الحرية والتغيير عن الإعتراف به ، إذ لم تصنفه كخصم بعد ، غير أنها ستجد نفسها مضطرة لذلك كلما تعنت المجلس في نقل السلطة لها. ولقد بدأت فعليا في هذا الإتجاه بالدعوة للإضراب عن العمل. وقد غفلت في ذلك عن تغير شكل الفرضية الأولي ، حيث لم يعد لديها من تناشده هذه المرة داخل البلاد للوقوف معها في وجه المجلس العسكري لأنه يمثل الجيش والتشكيل العسكري الآخر المعروف بالدعم السريع. وهذا الأخير لا يخفي عدم ارتياحه للقوي المدنية المشكلة لقوي الحرية والتغيير بحكم تركيبته المليشياوية وقيادته البدوية الطابع. اللهم إلا اذا عولت - قوي الحرية والتغيير - علي نوع من التناقض بين المجلس العسكري والرتب الوسيطة والصغرى في الجيش. وحتي هذا ربما يكون رهان خاسر لأن الجميع يعرف تكلفته الباهظة. وهي مواجهات مسلحة في قلب الخرطوم. إن الخيارات المتاحة أمام قوي الحرية والتغيير ستتحدد بتحديد موقفها النهائي من المجلس العسكري الانتقالي بإعلانه (قوة إنقلاب) وبذلك تحاول تجريده من أي رصيد أخلاقي سياسي وهو في الواقع يفتقر له لاسيما وأنه الآن عمليا في حالة (سطو) علي السلطة. بيد أنها إذا فعلت ذلك تكون قد كشفت ظهرها له وتكون الفرضية الأولى قد عادت للوجود مرة أخري وهي وجود سلطة متمايزة حاكمة لابد من الاحتماء منها بقوة أخري. قد تعول قوي الحرية والتغيير علي قوة الشعب وهذا بالضرورة يقتضي تكتيكات من نوع مختلف أولها نقل الإعتصام الي مكان آخر ، لأنه لن يكون من المقبول للمجلس أن يبقي علي الإعتصام في حرمه وهو خصمه المباشر وسوف يفضه بالقوة الجبرية ولن يتوانى في ذلك ولن يعجزه سوق المبررات، كما لن تمنعه السوابق كما حدث في مصر ( حالة رابعة العدوية). لذلك لن يكون أمام قوي الحرية والتغيير مناص من أن تلجأ لقوي أخري قادرة علي حمايتها بحق أمنيا وسياسيا، بشرط أن تكون أكثر قوة من المجلس العسكري وفي هذه الحالة ستكون هذه القوة السفارة الأمريكيةبالخرطوم التي لن يجرأ المجلس العسكري علي المساس بسؤ لمن يحتمي بحرمها من المتظاهرين السلميين لأن تكلفة ذلك ستكون عالية وليس باستطاعة المجلس دفعها. غير أن اتجاه كهذا يستلزم ترتيبات من نوع مختلف ، أولها إقناع المعتصمين بأن وجودهم في حرم الخصم ينطوي علي مخاطر بالغة ، ثانيا أن تقتنع مكوناتها بهذا الإتجاه مبدئيا وفي نفس الوقت تحافظ علي تمسكها الداخلي الهش. ثالثا سلوك اتجاه دبلوماسي يقنع الأمريكيين بعدالة قضيتهم ويؤكد لهم أن إيجاد سودان ديمقراطي ليبرالي مدني قائم علي الشرعية de jure يصب في خانة المصالح الأمريكية وليس خصما عليها كما ستحاول القوي الإقليمية إقناع الأمريكان بذلك. خلاصة القول إن من إستأثر بالسلطة بحكم الواقع de facto لاسيما إن كان عسكريا في ظل الظروف الإقليمية الراهنة ، يصعب مقارعته إلا بصورة مختلفة تجرده من أي لباس أخلاقي، ومن ثم شرعي وتفتح الباب واسعا أمام نضال طويل الأمد ، لن ينتهي بزيارة قصيرة للقصر يدفعها شعور رومانسي بالتسيلم والتسلم.