لم يكن سقوط نظام عمر البشير تحت وقع الشارع السوداني نهاية مطاف حكم العسكر وبداية إقامة نظام مدني جديد دستوري ديمقراطي , وإن بدت ملامحه ظاهريا تبشر بذلك , لأن العقلية العسكرية وطموحات العسكر متجذرة في المؤسسة العسكرية السودانية . هذه المؤسسة التي لم تخض حربا دفاعية عن أرض السودان وحدوده طوال عهدها , وإنما انحصر تفكيرها بأطماعها بمؤسسات الدولة من أعلى هرم السلطة إلى قاعدته , والتطلع للحصول على مكاسب سريعة يشبع غرائزها دون إبداء أدنى اهتمام بمشاكل المواطنين , والبشير كان خير نموذج لهذه الطبقة منذ استقلال السودان عن بريطانيا عام 1956 وإجراء انتخابات حرة وتشكيل أول حكومة وطنية , شهد السودان 4 إنقلابات عسكرية ناجحة و6 محاولات إنقلابية فاشلة أحبطت جميعها . وهكذا يعتبر السودان أكثر الدول العربية الذي شهد إنقلابات متجاوزا سوريا التي بلغ عدد الإنقلابات التي حدثت فيها 9 إنقلابا ت. والعسكر السوداني كغيره من عساكر الدول المتخلفة والنامية لم يرتق بعد بعقليته إلى مستوى الدول المتقدمة التي تحصر عمله وخدماته في المهام المناطة به بعيدا عن التدخل في الشأن السياسي , فمنذ الإستقلال وحتى هذه اللحظة لم يشهد السودان أي تقدم تحت حكم العسكر , وبقي بلدا متخلفا رغم الثروات التي ينعم بها , التي تمكنه لو أحسن استغلالها من أن يتبوق موقعا إقتصاديا عالميا متقدما , كما كان بإمكان أبنائه أن ينعموا برفاهية عالية , مع توفير فرص عمل لملايين العرب العاطلين عن العمل . لكن شراهة النظم العسكرية في النهب والسرقة , واعتبار الثروات ملكا خاصا بهم , أبقت البلاد على هذا المستوى المتدني من الحياة التي دفعت السودانيين مؤخرا بالنزول إلى الشارع , وأدت إلى إسقاط البشير أملا في الخلاص من الطغمة العسكرية التي تناوبت على السلطة أكثر من ستين عاما رغم الحشود الجماهيرية الكبيرة التي اكتظت بها الشوارع والساحات السودانية وإجماعها وتصميمها على إسقاط النظام العسكري وإقامة نظام مدني رغم ذلك لم يستسلم العسكر وإنما خلع أثوابه ليختبئ خلف أقنعة جديدة آملا عودته مجددا إلى السلطة ظنا منه أن بإمكانه الإستخفاف بعقول الجماهير التي وعت كل تلك الألاعيب إن نجاح الثورة والحفاظ عليها لا يكمن فقط بالتغلب على كمائن العسكر وإنما يكمن كذلك في قوى الحرية والتغيير نفسها , بتضامنها ووحدة مواقفها والإصرار على انتزاع حقوق الشعب مهما كلف ذلك من تضحيات . لهذا فمن الضروري أن تلجأ إلى إيجاد الصيغ التي تثبت أقدامها وترسخ إنتصاراتها وتقف سدا منيعا في وجه عودة العسكر إلى السلطة وكيفية المحافظة على المكاسب التي حققتها وتطويرها نحو الأفضل , وعلاقتها مع الجماهير وإبقائها مستنفرة وعلى أهبة الإستعداد لمواجهة القوى المعادية . فهي في مواجهة مؤسسة عسكرية منظمة ومنضبطة , وفي المقابل لا بد من مؤسسة متكاتفة متعاضدة تختفي معها كل الإختلافات السياسية والعقائدية وتلتقي جميعها حول مصلحة الوطن , وهذا يتطلب أولا : تشكيل مجلس قيادي لقوى الحرية والتغيير يدير شؤون ومتطلبات المرحلة الراهنة والتطورات المستجدة على الساحة . يجسد بذلك وحدتها ورؤيتها ووسائل عملها . ينبثق عن هذا المجلس تشكيلات قيادات الفروع التي هي على تماس وتفاعل مباشر مع الجماهير ومع قيادة المجلس ثانيا : تشكيل فرق تطوعية شعبية متخصصة في تقديم الخدمات كل في مجال عمله , لتقديم الخدمات المجانية الضرورية للمواطنين كالطبابة والخدمات الغذائية للعائلات الفقيرة , ومساعدة المزارعين بما يحتاجون إليه وغير ذلك , والسودانيون أدرى بذلك . هذه الخدمات تعمق الروابط بين القادة والجماهير وتدعم التلاحم فيما بينها , ويتيقن الشعب صدق الثورة وإخلاصها , كما تمنحه حصانة ضد ألاعيب الثورة المضادة . أما الإملاءات الفوقية لها مضاعفات خطيرة قد يمل منها الشعب ويصاب بالإرهاق والتعب ويبدأ بالإفتراق عن مسار الثورة . لكن هذا ينتفي نهائيا عند تلمسه المكاسب وإحساسه بالفوارق بين من يسرق قوت يومه وبين من يضحي حتى بنفسه من أجله إن العمل الشعبي التطوعي في بلد مثل السودان هام جدا وفعال أيضا في زيادة التلاحم والتعاضد الجماهيري ورفع مستوى الخدمات والإنتاج في مرحلة قد تغيب عنها المؤسسات الحكومية بسبب عجزها أو بسبب إهمالها وعدم اهتمامها بالمتطلبات اليومية للشعب ليسهل لها قيادته في الإتجاه الذي تريده إن على قوى الحرية والتغيير وضع تصور واضح لمستقبل السودان والمباشرة بتطبيقه بواسطة العمل الشعبي التطوعي دون انتظار قيام السلطة المدنية