كنا محظوظين يوما حين نرى بانتظام الأمير صديق منزول، والمارشال يحيي الطاهر، ود. كمال شداد، وإبراهيم يحيي الكوارتي، وعمر الزين صغيرون، ونجم النجوم أمين ذكي، وعمر التوم، ومحمد الشيخ مدني المكنى بأبي القوانين، وذلك عندما ولجنا أولا باب الصحافة الرياضية. فاستأذنا الراحل حسن عز الدين كان واسطة العقد. إذ هو صديق حميم لكل هؤلاء المقربين لنفسه، بجانب صداقته لعدد هائل من رموز الرياضة رغم هلاليته التي يدسها في ثنايا حروفه الموضوعية. يأتون إليه بعد الثانية ظهرا في مكتبه في التنظيم بوسط الخرطوم ليخففوا أنفسهم من ضغط العمل. فحظي أنني كنت مكلفا بأن أمر على حسن لاستلم يوميا عموده الكروي "مفاهيم رياضية" لأقف على نشره ضمن مهامي بتنفيذ تصميم صفحتي الرياضة التي كان يشرف عليها أستاذنا محمد أحمد الدسوقي. في ذلك المكتب كنت أرى عسكرية زي نجم النجوم تنافس مدنية زي الأمير الذي لا تفارقه ربطة العنق، إذ كان صديق منزول كبير موظفي ديوان المراجع العام، وصار لاحقا نائبا للمدير. وما عرف الأمير إلا كونه ملك الإناقة، وفي شخصيته هيبة، وسمات تفرض عليك احترامه. أما العقيد أمين فكان يمتاز بالهدوء، وتلحظه كثير الأصدقاء حتى قربه الشديد من الكابلي. ومن السهل التقاط ضخامة في صوته ولكن مع رخامة محببة فيه مثلما هي رخامة نبرات العاقب محمد حسن عندما يؤانسك. وتراني هناك صامتا، منتظرا..حتى إذا جهزت المادة الصحفية أخذتها ثم مضيت نحو مكاتب السوداني. لم أكن أدخل في نقاشات تلك النخبة حول مواضيع الكرة، وأمور متعددة. وحينذاك لا يقوى الصحفي ذو العام الأول في مدرسة الصحافة إلا على الصمت - مع تلصص النظر - وسط هؤلاء الرموز العمالقة الذين حفرت أسماؤهم في التاريخ الكروي بأحرف من ذهب. هناك تسمع أمين ذكي بقهقهاته، واستئناف "مكاواته" للكوارتي حول نكتة تداولاها سابقا في دار الرياضة أمدرمان وسط روادها الظرفاء، والذين من بينهم كمال آفرو، وعوض أبشر، ومؤمن الغالي، وآخرون يسدرون في الترويح، ولا ينتبهون لمجريات سير المباراة إلا حينما يهتف الجمهور مذكرا إياهم بأن مهاجم قلب الأسد النفاثة قد فعلها مع حارس الهاشماب المستهتر بالضربات الثابتة. وأمين زكي الذي رحل الأسبوع الماضي كان من زمرة ظرفاء أمدرمان التي تأتي يوميا إلى دار الرياضة، ولا تنشغل بمعرفة جدول المباريات قدر انشالغها بالملمة العصرية التي تجذب أحيانا البروفيسور علي المك، ومحمد عثمان دلدوم، ومحمد عبد الجليل حقي، والهادي نصر الدين، والديجانقو عثمان أحمد البشير، والفريق شرطة محمد عثمان هاشم، وفؤاد التوم، وأسطورة المريخ جاد الله، وهل ننسى المحينة او الأديب الأريب الحاج حسن عثمان الذي يمثل مع الأستاذ أحمد محمد الحسن ثنائيا في الأدب المريخي الذي بناه الشاعر الفذ محمد عبد القادر كرف: عشت يا مريخ موفور القيم ناهض العزة خفاق العلم ويبدو أن الشاعر كرف حاول مجاراة عمر البنا الذي كان له محبوبه ذي الرمز الهلالي الخاص، كما غزال المسالمة لعبد الرحمن الريح، ولكن الأهلة استغلوا الأغنية على ما فيها من إشارة للكواكب: هل الهلال هل شفنا حبيب بنريدو غير علة اهلا بيهو.. -2- وسط هذه المولد الأمدرماني تجد أمين زكي كثير الهذر مع المريخاب الذين يذكرونه ببرعي أحمد البشير - أو برعي القانون، والذي كثيرا ما مر أمامه ببهلوانياته التي وصفها علي المك بأنها سيمفونيات لا تقل عن سيمفونية بحيرة البجعة للموسيقار الروسي تشايكوفيسكي. وبينما حاله هكذا ترى أمين زكي أفضل من أجاد خانة الثيردباك في تاريخ الهلال، والفريق القومي، كما يقول الخبير الدولي الأستاذ حسين إمام. وفي مكتب حسن عز الدين كنت أحيانا أطلب منه تعليقا على مباراة، أو شؤون الهلال، أو الفريق القومي. وكان دقيقا في لغته. ويطلب مراجعة نص التصريح الذي يصيغه بدقة لكونه كان معلما محنكا قبل أن ينضم للجيش بتوصية من "ربيع الدنيا" الشاعر اللواء عوض أحمد الخليفة. ومرات أحظى بحوار مطول لصحيفة رياضية يتناول ذكرياته مع الهلال، والفريق القومي، وكذلك أمورا تتعلق بالتدريب الذي حصل فيه على خبرة، وشهادات من الاتحاد الأفريقي دفعته إلى الهجرة إلى عمان، والإمارات لتدريب فرق المقدمة. وهكذا جمع أمين زكي بين التعليم، والرياضة، والجيش، والتدريب، بمساهمات مميزة، وعطاء معترف به من الهلالاب والمريخاب كذلك. وربما بخلفيته هذا وجد نجم النجوم احتراما من كل الكرويين فضلا عن أنه لم يكن رياضيا متعصبا للهلال، وإنما كان تربويا منضبطا، وبالتالي احتفظ بعلاقات مميزة مع كل الناس حتى غير المرتبطين بمضمار كرة القدم. أهمية أمين زكي المولود في توتي تكمن في أنه كان كابتن منتخبنا الوطني حين فاز ببطولة الأمم الأفريقية في 1970، وكأس الصداقة الإثيوبي. أما مع الهلال فقد بدأ مشواره الكروي عام 1957، وكذلك لعب للأهلي المصري لعام واحد في 1971، وكان اعتزاله في عام 1974. -3- أمين زكي كان يمثل جيل النجوم في كل أندية العاصمة المثلثة، وليس الهلال فحسب. بل إن الأقاليم ذاتها كانت تعج بفوارس، ونوارس، من لدن الطاهر حسيب، وشوقي عبد العزيز، وسنطة، وبابكر والفاضل سانتو، ومحمد حسين كسلا، والطيب سند، وزغبير، وهناك آخرون كثر شكلوا مددا لأندية المقدمة التي جاءوا إليها من بورتسودان، ومدني، وكسلا، وعطبرة. ولعله بغياب الاهتمام المتساوي بأندية الأقاليم ومحاولة تجيير الإنقاذ للهلال والمريخ انعدم التنافس حتى لم يعد أهل مدني والموردة العاصمية ندين للهلال والمريخ على مستوى التنافس القومي، وأصبح الاعتماد على استجلاب اللاعبين الأجانب عائقا أمام بروز مواهب جديدة، وقد انتقد أمين زكي هذا التطور الجديد بقوله: "إن انديتنا تستجلب لاعبين بعد وصولهم سن الثلاثين، ولا يستطيعون تقديم أي شئ لتطوير كرتنا". ما يؤسف له أن اللاعبين القدامى أمثال جكسا، وأمين زكي، ود. علي قاقرين، ود. كسلا، ظلوا بعيدين عن المساهمة في شؤون الهلال رغم أنهم تلقوا تعليما جيدا، وخبرات إدارية، ومهنية، فوقا عن سيرتهم الاجتماعية المميزة. والحقيقة المرة أنه قد سيطرت الرأسمالية الطفيلية على أندية القمة طوال زمن الإنقاذ، وبالتالي حولتها إلى ضيعة خاصة بها، وصار عدد من الذين حامت الشبهات حول ثروتهم مسؤولين عن الناديين الكبيرين ويوظفونهما لصالح رغائبهم حتى كادوا أن يمتلكونهما. ومن غرائب الأحوال صار نصر الدين عباس جكسا، وأمين زكي، وقاقرين، بعيدين عن التأثير في إدارة النادي، بل شهدنا أن قدامى اللاعبين في أندية القمة يواجهون حربا من هذه الإدارات التي تضم بعض مرتادي السجون، ولا يملكون قدرات إدارية، أو تربوية، وبعضهم لم يمارس لعبة القدم البتة. ولهذا السبب كثرت المشاكل بين الجيوب المتصارعة حول مقاعد مجلس الإدارة، وتصاعدت المديونيات، وعدم الاستقرار في الجهاز الفني، ولم نر أي إنجازات كروية خارجية، وانعدم الاهتمام بالمناشط الأخرى مثل رعاية الأشبال، والسلة، والملاكمة، والسباحة، والنشاط الثقافي. وتخيل ان الهلال كان لديه حتى مطلع الثمانينات فريق رائدات النهضة للسلة، بل كان بول منوت نجم فريق نادي الهلال للسلة وهاجر منه للولايات المتحدة. أمين زكي، ورفاقه، كانوا منضبطين، وتربويين، ويصعب عليهم مجاراة الرغبات الذاتية لرؤساء أندية القمة الذين مكنتهم الإنقاذ. ولقد قضى نجم النجوم وقتا في التدريس، ومن تلاميذه فلتة المريخ، والكرة السودانية، كمال عبد الوهاب الذي تلقى العلم على يديه ثم لاحقا لعب ضده. ولو كانت هناك مؤسسية تضبط نادي الهلال لأوكل إليه فكرة إنشاء مدرسة أشبال الهلال، والتي ظل قدامى النادي يطرحونها لتطوير الاهتمام بالمواهب. ولكن يبدو أن الحال من بعضه. فالرياضة عندنا مرتبطة بالأوضاع العامة. ولذلك ينبغي أن يشمل التغيير كل المؤسسات الرياضية التي وظفت الإنقاذ بعضها فيما ساهمت بوجود وزراء ترضيات لا يعرفون شيئا عن الرياضة فأهملوا كل المناشط الرياضية، بل لم يعرفوا شيئا عن شخص اسمه أمين زكي.