لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب مانشستر سيتي بركلات الترجيح    ركلات الترجيح تحمل ريال مدريد لنصف نهائي الأبطال على حساب السيتي    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    سيكافا بطولة المستضعفين؟؟؟    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    مصر.. فرض شروط جديدة على الفنادق السياحية    الحركة الإسلامية السودانية ترد على كندا    شاهد بالصورة والفيديو.. ببنطلون ممزق وفاضح أظهر مفاتنها.. حسناء سودانية تستعرض جمالها وتقدم فواصل من الرقص المثير على أنغام أغنية الفنانة إيمان الشريف    ماذا كشفت صور حطام صواريخ في الهجوم الإيراني على إسرائيل؟    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    مقتل 33899 فلسطينيا في الهجوم الإسرائيلي منذ أكتوبر    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    محمد بن زايد وولي عهد السعودية يبحثان هاتفياً التطورات في المنطقة    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    رباعية نارية .. باريس سان جيرمان يقصي برشلونة    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    رسالة من إسرائيل لدول المنطقة.. مضمونها "خطر الحرب"    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    قصة مانيس وحمدوك وما ادراك ما مانيس وتاريخ مانيس    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عفو الخاطر: حتى تصفو مياه النيل ... من وصايا محجوب شريف .. بقلم: عمر جعفر السّوْري
نشر في سودانيل يوم 20 - 07 - 2019


أطفالي نبض الحياة والأغاني شجرُ
اغربي يا شمس
فالثعلب فات والشبيبة عبروا
" فتحي الخانجي"
هطل المطر غزيراً ليلة الثاني والعشرين من يوليو/تموز العام 1971، لكن الغيوم لم تنقشع من سماء الخرطوم، بل تلبدت غيوم الحرب تحت سماوات اقتربت كثيراً من الأرض حتى كادت تلتصق بها، بعد أن كان النظر يسافر طويلاً، فيكل حينما يحدق اليها في الأمسيات الصافية عله يصطاد نجمة قريبة تضيء الليل البهيم. كنا ننتظر بزوغ الفجر لنعبر الجسر القديم من امدرمان كي نبلغ مكاتب الجريدة بالقرب من شارع القصر ومن ثم الى قلب الشارع حتى نتابع المسيرة التي دعا اليها الاتحاد العام لعمال السودان واتحادات شبابية ونسائية وأحزاب ومنظمات يسارية ونقابات مهنية أخرى دعماً لحركة 19 يوليو/تموز "التصحيحية." كنت اتوجه الى مكاتب الجريدة في الخرطوم صباح كل يوم من أيام الانقلاب الفريد. بعد أن عدت عصر التاسع عشر الى العاصمة الوطنية، امدرمان آليت على نفسي أن أواكب الحدث عن قرب، حتى مع حظر اصدار الصحف، ما عدا صحيفة القوات المسلحة. لم تكن أبواب الجرائد مغلقه ولا الدخول اليها محظوراً.
عصر ذلك اليوم غادرت مكتبي في جريدة "سودان استنادرد" التي كانت تصدر باللغة الإنجليزية عن دار الرأي العام بعد التأميم الذي طال الصحافة ومن ثم تكميم الافواه، متجهاً الى المطبعة الحكومية التي تطبع الجريدة، وذلك قبل انتقالها الى مطبعة أخرى في المنطقة الصناعية بامدرمان. كانت المطبعة تقع بالقرب من مصنع سك العملة في منطقة المقرن، وهي في طريقي الى البيت. كان معي أخبار للصفحة الأولى وتقريران لصفحتين داخليتين. درجت، في الأيام العادية، على البقاء هناك حتى مثول الجريدة للطبع وأحياناً انتظر رئيس التحرير، الصحافي الجهبذ محمد عمر الخضر، فيأخذ كل منا نسخة من عدد اليوم التالي والليل يبارح ضفاف النيل ليسفر عن خيوط فجر خجول. في ذلك اليوم أخبرني أحد عمال المطبعة أن الصحيفة لن تصدر في الغد، ولم يزد على ذلك. ظننت انهم أعلنوا اضراباً عن العمل فجأة وأن عليّ أن اتصرف بنقل المادة الى مطبعة أخرى، إذ لا يمكن للجريدة أن تحتجب. لكن الامر كان غير ذلك. كان العمال متجمهرين حول المذياع الوحيد الذي ما أنفك يردد الالحان العسكرية والاناشيد. سألني رئيس العمال بتعجب: "ألم تسمع بما جرى؟". فأجبته "ماذا حدث؟ لقد غادرت المكتب منذ فترة واستغرق بحثي عن سيارة اجرة بعض الوقت لخلو الشوارع مما أثار استغرابي، لكنني لم أعر الامر اهتماماً." لم تكن كل سيارات الأجرة مزودة بمذياع يومئذٍ. قال لي: "ان انقلاباً عسكرياً قد وقع منذ قليل، وقد بلغّنا مدير المطبعة هاتفياً بوقف العمل وبعدم طباعة الجريدة. زاد تعجبي، إذ كيف لمدير المطبعة الاتصال بعماله هاتفياً وكيف تستمر حركة السير دون انقطاع وإن بوتيرة أخف وفي البلاد انقلاب. قبل سماعي لخبر الانقلاب، فسرت قلة حركة السير بانتهاء ساعات العمل في دوائر الدولة منذ حين وعودة الناس الى منازلهم وهجوعهم الى أسرتهم بعد وجبة الغداء؛ فالقيلولة طقس مقدس عند الأكثرية، لا سيما الأفندية، إن لم يكن الكافة! هي فرض عين وليس فرض كفاية. لكن، أليس من أبجديات الانقلاب العسكري الزحف قبيل الفجر الى المواقع الرئيسة الحساسة، وحل الأحزاب والمنظمات السياسية والمطلبية من نقابات واتحادات، والاستيلاء على الإذاعة، وقطع كل أنواع الاتصالات السلكية واللاسلكية، واغلاق الأجواء ووقف الملاحة الجوية والنهرية والبحرية، وتعطيل حركة السير والتنقل والانتقال بإعلان حالة الطوارئ، ومنع التجوال حتى استتباب الامر لهم؟ انقلاب عسكري في رابعة النهار؟! انه أمر مريب، لا يصدق. قلت لهم سأعود الى المكتب لأتقصى الامر من هناك. نصحني عامل الليونتايب أن أذهب الى المنزل، إذ ليس هناك ما أستطيع فعله للجريدة، وأن اتسقط الاخبار من المذياع. "هذا انقلاب عينة! حركة رهيبة!" أردف العامل سر الختم القول.
في بعض الأحيان أطلب من سائق سيارة الاجرة انتظاري ليقلّني الى المنزل، إن لم تكن لدي رغبة في البقاء بالمطبعة طويلاً، ومن محاسن الصدف انها كانت احدى المرات القليلة التي أطلب من السائق انتظاري لدقائق معدودات. لكن الامر استغرق حوالي الساعة. وجدت الرجل في انتظاري، وقد غفا على المِقود. صعدت الى السيارة الى جانب السائق وأخبرته بما سمعت. لم يصدق الرجل، لكنه قال إن هناك أموراً غريبة تحدث في المدينة لم يجد لها تفسيراً وأخذ يسرد لي بعض ملاحظاته. حينما اقتربنا من الجسر، رأينا مدرعةً وجنوداً وضابطين يقفان على الأرض بالقرب منها ويتحدثان الى الجنود بأريحية. عرفت أحدهما، خالد حسين الكد، وكان من الضباط الذين احيلوا من الخدمة الى التقاعد منذ فترة وجيزة لكنه اليوم يرتدي بزته العسكرية مرة أخرى. ساعتئذٍ أيقنت أن ما قيل لي في المطبعة لا يحتمل التأويل ولا يعتريه شك، بل هو الحقيقة الناصعة. ترددت للحظات أي اتجاه أسلك، الخرطوم أم أمدرمان، ثم حزمت أمري بعبور الجسر نحو العاصمة الوطنية التي بدت شوارعها شبه خالية من السابلة والدراجين والسيارات. هل هي القيلولة أم صدمة الحدث؟
كانت مكاتب "سودان استنادرد" وجريدة الرأي العام المتجاورتين ومكتب شوقي ملاسي المحامي الكائن في ذات المبنى لا تخلو من الزوار الذين يبحثون عن إجابات، أو يتبرعون بتفسيرات، أو يفتون، أو يزعمون، لكن بثقة يحسدون عليها، معرفتهم بالتحرك قبل حدوثه، بل بما أسدوه من نصائح لقادة الحركة العجيبة. يتبارون في رواية الحكايات وكلها من نسج خيال خصب لا يبارى ليس من ورائه غير الثرثرة الفارغة والادعاء الكاذب ومحاولة الظهور بأنهم ملمون ببواطن الأمور، عارفون بمجريات الاحداث. عجبي! بعضهم كانوا ممن يحسبون على الإنتلجنسيا التي تتسلح برزم من الصحف اللندنية التي مضى على صدورها بضعة أيام والمجلات الأميركية وذلك في غدوهم ورواحهم، وقلة تتأبط أعداداً مضى عليها أسابيع من الفيقارو والموند الفرنسيتين يضعونها، حال دخولهم مكتباً من المكاتب، على أقرب منضدة يراها الجميع ليبزوا الحضور بمعرفتهم بلغة بلاد الغال - التي كانت قليلة الانتشار في سودان ذلك الزمان - وبالتالي بسعة العلم والادراك، وكان آخرون من الغاوين. كان الجميع ذكوراً يتحدثون باسم السودان كله، رجاله ونسائه.
صبيحة الثاني والعشرين من يوليو عرّجت، لبرهة، على الجريدة. لم أجد أحداً فتوجهت الى شارع القصر القريب من جهة ميدان أبي جنزير. بدأت الحشود في التوافد، بعضها يحمل أعلاماً وأخرى تتجمع من هنا وهناك والكل يبحث عن راية يسير خلفها. أسبغت أمطار الليلة الفائتة على العاصمة جواً منعشاً وأضقت لمعاناً على الشارع ومحيطه. كانت الخرطوم مدينة نظيفة يومذاك! وجدت عدداً من الزملاء الصحافيين فوقفت بينهم نتبادل المعلومات الشحيحة التي استقاها كل منا عن توتر يسود المدينة والبلاد ومدى صحة البرقيات التي تذاع عن تأييد وحدات القوات المسلحة المنتشرة في ارجاء البلاد والتي تأتي "بالواضح"، والجميع في انتظار خطاب الرائد هاشم العطا. ثم سرت شائعة بهبوط مفاجئ في ليبيا للطائرة التي تقل عضوي مجلس قيادة الثورة، بابكر النور وفاروق عثمان حمد الله، قبل أن تتأكد الاخبار بإجبار الطائرة على الهبوط في عملية قرصنة جوية واضحة المعالم قامت بها دولة وليس عصابة مارقة، كما كنا نحسبها في تلك الأيام. تأخر خطاب الرائد هاشم العطا بعض الوقت عن موعده، وحينما القاه كانت نبرة صوته متوترة للغاية، لا تخفى على أحد، خصوصاً الذين يعرفون الرجل عن قرب.
عرفت هاشم العطا معرفة وثيقة حينما جاء الى برلين، عاصمة جمهورية المانيا الديموقراطية (الشرقية) قادما من بون، عاصمة المانيا الاتحادية (الغربية)، التي كان مبعوثاً إليها ملحقاً عسكرياً في سفارة السودان، وأنهى مهامه هناك بعد تعيينه عضواً في مجلس قيادة "الثورة". جاء ليلتحق بوفد السودان الى مؤتمر مجلس السلم العالمي، ثم ليعود بعدها مع بقية أعضاء الوفد الى الخرطوم ويقسم اليمين لتولي منصبه الجديد. كان الوفد برئاسة الرائد فاروق عثمان حمد الله، عضو مجلس قيادة سلطة 25 مايو/أيار ووزير الداخلية الذي ألقى خطاباً أمام المؤتمر فيه كثير من المحطات التي تفسر ما جرى بعد ذلك، ولكن تلك قصة أخرى. توطدت علاقتي مع الرائدين بعد عودتي الى الخرطوم. حينما التقيته في بهو فندق السودان مصطحباً الامبراطور هيلي سيلاسي، الذي جاء لحضور قمة شرق ووسط أفريقيا، من المطار الى مقر إقامته في الفندق. طلبت منه محاولة ترتيب مقابلة صحافية لي مع العاهل الاثيوبي، فوعد خيراً، ولكنه قال ضاحكاً سأعتمد عليك في تأمين سلامة الامبراطور حتى مغادرته عائداً الى بلاده، إذ كان على علم بعلاقتي الوثيقة بالثورة الارترية. كان هاشم العطا سمحاً، هادئاً، شهماً، وصوته خفيضاً الى حد ما، واثق الخطوة يمشي ملكاً، متماسكاً، لماحاً، ثاقب النظر، ودوداً، وقريباً الى القلب منذ اللقاء الأول. لكنه حينما ألقى خطابه صباح ذلك اليوم المشهود، كان على غير عادته متوتراً وغاضباً. هنالك خطب جلل حدث لم نستبن تفاصيله بعد.
ونحن وقوف نستمع الى الخطاب، والدهشة تعلو الوجوه، جاءنا مسرعاً الزميل الراحل الوليد إبراهيم، الصحافي بجريدة الأيام، يحمل أوراقاً في يده. قال هذا نص الخطاب الذي بدأ الرائد هاشم العطا في القائه؛ ثم توجه بالحديث الىّ والى الزميل الراحل محمود محمد مدني، راجياً أن نذهب معه الى مكاتب جريدة "نايل ميرور" التي كانت تصدر عن وزارة شؤون الجنوب ويرأس تحريرها الزميل الأستاذ الراحل الكبير عوض برير. قال انه يريدنا أن نسهم في ترجمة الخطاب وتحرير بعض الاخبار التي سترد فيما بعد. ومضى الى القول بأن صحيفة القوات المسلحة باللغة العربية لا تكفي، بل لابد من صدور صحيفة باللغة الإنجليزية، الى حين تقرير مصير بقية الصحف بعد "استتباب الوضع". الكلمتان أثارتا الاستغراب والدهشة والانزعاج. كانتا جرس انذار لما قد يتداعى من قلاقل تدخل البلاد في عين العاصفة. كان مقر "ذي نايل ميرور" يقع بالقرب من وزارة شؤون الجنوب وعلى مرمى حجر من القيادة العامة للقوات المسلحة، وهي ليست بعيدة عن شارع القصر. وافقنا على رجائه، ووعدناه باللحاق به بعد حين.
أمتلأ شارع القصر عن بكرة أبيه فتدفقت الجموع على جنباته من محطة السكك الحديدية حتى مدخله الجنوبي والحواري والازقة المتفرعة عنه، لكن القلق ساد صفوف الكتل المحتشدة. بعد الخطاب بدأ الناس يتفرقون فرادى ومجموعات والشائعات تترى وتسري كالنار في الهشيم. توجهت صحبة الزميل محمود مدني الى مقر ذي نايل ميرور لنجد الوليد إبراهيم، وراقنتين سودانيتين منكبتين على طباعة بعض النصوص المحررة باليد على آلتين كاتبتين، والبحاثة الأميركي ريتشارد لوبان وزوجه كارولين، والزميل بولن بوتيش، الصحافي بالميرور وهو من جنوب البلاد. كان الاميركيان يعدان رسالتيهما لنيل شهادة الدكتور حول مواضيع تتعلق بالنوبة وجزيرة توتي.
عرفت ريتشارد لوبان حينما كان يحضر بعض المؤتمرات الصحافية التي تنعقد بقاعة صغيرة في وزارة الاعلام خُصصت لهذا الغرض وفي أماكن أخرى وذلك بوصفه مراسلاً لدورية أميركية تُعنى بالشأن الافريقي تصدر في مسقط رأسه، ولاية رود آيلاند. ثم توطدت العلاقة بيننا أثناء محاكمة المرتزق الألماني رولف اشتاينر التي انعقدت في مبنى البرلمان بشارع الحلواني. كنا نتحدث عن شأن القارة، وخصوصاً أحداث القرن الافريقي، فرجاني أن أرتب له زيارة الى المناطق المحررة في ارتريا، بعد أن علم عن صلتي بالثورة. حدثت قيادة جبهة التحرير الارترية عن رغبة البحاثة الأميركي، فأمهلوني بضعة أيام حتى يجروا بعض التحريات ويتولوا الاعداد للزيارة. كانوا يرغبون في زيارة الصحافيين الأجانب، الا انهم في ذات الوقت، كانوا حريصين على الجوانب الأمنية وتفادي أي اختراق قد يضر بهم. بعد أيام قليلة بلغته بالموافقة وموعد السفر الى كسلا بالطائرة، ومن هناك تتحدد بقية المواعيد. كنت وزوجه، كارولين، في وداعه بالمطار حيث انهالت دموعها وهي تحتضنه، فالمغامرة محفوفة بالمخاطر. لكن الرحلة سارت بدون عوائق وعاد الى الخرطوم سالماً غانماً، بيد أن الشمس تركت آثارها على بشرته البيضاء، ونقص وزنه قليلاً من أثر المشي مسافات طويلة. كانت العير وسيلة المواصلات الوحيدة التي تمتلكها الثورة الارترية في ذلك الزمان.
رغم حرص الارتريين على توخي الحذر في تعاملهم مع الصحافة الأجنبية، الا ان جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) استطاع اختراقهم في العام 1971 حينما أرسل طاقماً من ثلاثة "صحافيين" فرنسيين بينهم مصور من مجلة بوليتيك إبدو "السياسة الأسبوعية". أمضى هذا الطاقم أسابيع في مناطق ارتريا المحررة ولم يُكتشف أمرهم الا بعد أن القت عليهم أجهزة الأمن المصرية القبض متلبسين بالجرم المشهود وصدرت عليهم أحكام بالسجن لتجسسهم لصالح إسرائيل.
بدأت والزميل محمود في ترجمة الخطاب ومناولة ما ننجز الى ريتشارد وزوجه للمراجعة والتدقيق، ومن ثم الى احدى الراقنتين. وحينما تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر بقليل دوى صوت قذيفة حسبناها فوق رؤوسنا، ثم دوي آخر وثالث. في هذه اللحظة أمسك ريتشارد بيد زوجه وانطلقا الى الخارج ليمتطيا دراجتهما النارية من طراز فيسبا عائدين الى عوامة على النيل كانا يسكناها، واصطحب الوليد إبراهيم الراقنتين الى سيارته الروسية من طراز موسكوفتش لينطلق بها بعيداً دون أن يقول لنا شيئاً. بقي في مقر الميرور بولن بوتيش ومحمود مدني وأنا. تقطعت بنا السبل وصوت القذائف يدوي من حولنا وزخات الرصاص لا تنقطع. ولجنا غرفة داخلية نمضي فيها الليل، وربما الأيام القادمة إن اشتد القتال، والجوع قد بدأ في غرس أنيابه. لم نتناول طعاماً طيلة ذلك اليوم وحتى وصولنا الى بيوتنا في اليوم التالي. جلس بوتيش الى منضدة عالية في تلك الغرفة مع كتاب متوسط الحجم يقرأ صفحاته، وحينما أكمل قراءة الكتاب بعد منتصف الليل نام فوق المنضدة كأن شيئاً لم يكن. كنت ومحمود ننصت الى المذياع طيلة الليل وحتى الفجر. كان محمود يرتعد حتى مغرب ذلك اليوم ثم هدأ قليلاً بعد تقطع أصوات الرصاص وسماعها على فترات متباعدة الى حد ما. كان يشير الى هدوء الزميل بوتيش قائلاً: انه متعود على أصوات القنابل والرصاص التي انهمرت في جوف الغابة بجنوب السودان، ولذلك لا يأبه. بُعيد منصف الليل هطل المطر مدراراً، فصار صوت المطر المتساقط يختلط بصوت الرصاص الذي قد تحسبه عند عتبة الغرفة التي نلوذ بها والبعض يتردد صداه عن البعد. ثم ران صمت رهيب. لم نعد نسمع زخات المطر وسكتت لعلعة الرصاص، لكن لم يغمض لنا عين حتى غادرنا مقر الجريدة نحو شارع القصر لنبحث عن وسيلة مواصلات تقلنا الى ديارنا.
قبل أن نصل الى شارع القصر التقينا بالراحل بابكر كرار وبعض جيرانه يقفون الى جوار منزله يحاولون استشراف ما بعد الاحداث ومآلات الخطوب. توقفنا عندهم لبرهة. ظن الجميع اننا كنا في جولة نتقصى ما جرى ونقوم بعملنا الصحافي. سألنا بابكر كرار عن الأوضاع في القيادة العامة للقوات المسلحة وكيف تبدو. لم نشأ أن نخبرهم بما حدث لنا، فقلنا لهم انه لم يتسنى لنا الاقتراب من هناك. وقبل أن نفارقهم قال لنا الرجل: "لن يتوقف سيل الدماء في كل أنحاء البلاد، وليس الجنوب فحسب، بعد ما حدث ليلة البارحة. سيسفك دم كثير ولسنين طويلة ويصبح العنف ديدن السياسة واستخدام القوة من طبائع الأمور. لن يتوقف الا بعد أن يدرك البلاد التعب والناس، كبيرهم وصغيرهم، يترنحون من الاعياء" كأنما يقرأ في كتاب مفتوح! ودعناهم عند ذاك وأسرعنا الخطى بحثاُ عن سيارة اجرة.
في الطريق من الخرطوم الى امدرمان كان الجنود المدججين بالسلاح يستوقفون السيارات والمارة على حد سواء، يتفحصون الوجوه ويسألون من أين والى أين؟ لم يعتد السودانيون في ذلك الوقت حمل بطاقات هوية ولم يكن شائعاً استخدامها الا عند القوات النظامية، يطلقون عليها "الكارنيه". كانت ليلة الثالث والعشرين من يوليو/تموز 1971 ليلة ليلاء!
صدقت نبوءة بابكر كرار. لم يتوقف سيل الدماء في جميع أنحاء البلاد منذ بزوغ فجر السبعينيات وحتى اليوم. تناثرت الجثث في المدن والقرى والفيافي والمهامه وطفى بعضها على صفحة النيل الهادي والهادر، وغاص البعض الاخر في عمق مياهه، مكدراً صفوه. كان محجوب شريف أيضاً يستشرف المستقبل ويوصي الناس في جميع قصائده بعد أن يصف الحالة ويشخًص الداء. هل ينصت أهل البلاد الى صوته الراجع من الأعماق في احدى بواكير قصائده، يستنهض الشعب ويدعوهم الى البذل والعطاء:
أنحنا شعبنا مدرستنا
وياهو يُما وياهو يابا
وهو البديكم صلابة
وهو البفرق بين حكومة وبين عصابة
وشعبي عارف انو عمر الثورة ما عام
ماهو عامين، لا تلاته
انو عمر الثورة دائماً منجزاتا
لما يدخل كلُ بيت كراس ولمبه
وطعم الخبز يدخل حله .. حله وغابه .. غابه
وبرضو عارف
لا الدهب بينزل من السما لا السنابل
لا الهتاف برفع منازل
الا بالعرق البنقط في المطارق والمناجل
حتى يدخل كلُ بيت كراس ولمبه
وطعم الخبز يدخل حله .. حله وغابه .. غابه.
عرف الشعب حقاً. الشعب أدرى بمصلحته وما يريد، وليس غيره القادر على وقف شلال الدم والدموع وبناء ما تهدم والخروج من هذه الدوامة بعد أن يزيح عن طريقه المغامرين وقطاع الطرق واللصوص بأي زي كانوا وأي رداء أتخذوا.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.