تطرّقتُ في الجزء الأول من هذا المقال إلى ما أسميناه الحلم المؤجَّل، أي أن الأهداف التي ناضل من أجلها شعبنا على مدى أكثر من نصف قرن، لم تتحقق حتى لحظة كتابة هذه السطور. وقد سعدتُ بالآراء والردود والملاحظات التي تلقيتها حول النقاط أثارها الجزء الأول من المقال. ويجدر بي هنا التأكيد، بأنه من الصعوبة عمليًا الإحاطة بكافة جوانب أزماتنا الراهنة في جزأين من هذه السلسة، وذلك لطبيعة الكتابة الصحفية. ولكننا نتوسم بهذه المساهمة في فتح باب الحديث بصوت عالٍ حول تجربتنا، نجاحاتها وإخفاقاتها. وكما يشير جون قاي يوه في كتابه "العزلة والوحدة والانفصال تأرجح الفكر السياسي في جنوب السودان"، فإن عملية كتابة تاريخ أي أمةِ، عمل محفوف بالمخاطر. ولكننا نعتقد بضرورة المحاولة حتى نكشف علل التجربة، بالسؤال لماذا توقفت أحلامنا وتطلعاتنا للبحث عن السلام فقط، عوضا عن الحديث عن بناء الدولة بموازاة التطور الاجتماعي والاقتصادي، وبتكامل الأدوار بين الدولة والمجتمع وفئاته ودفع عجلة البناء إلى الإمام. كوابح البناء كان مؤتمر الحوار الجنوبي – الجنوبي الذي عُقدَ في جوبا في أكتوبر من عام 2010، والذي جمع القوى السياسة آنذاك، فرصةً لبناء مسار يختلف كثيرا عن الذي نشهده الآن. فقد رسمت مخرجات المؤتمر خارطة طريقٍ نحو توجيه دفة العمل السياسي ومأسسته، في مرحلة ما بعد قيام الدولة. وكانت تلك السانحة منبرا للتنظيمات التي شاركت في تلكم الحوارات، بأن تضع خططها وأهدافها للمرحلة القادمة، بما يتناسب مع طبيعتها، وضرورات التحول الديمقراطي (Democratic Transition). بعد التجربة القصيرة في المشاركة في السلطة في الفترة (2005-2011). ومع ذلك، لم تشهد هذه التنظيمات المختلفة، بصرف النظر عن الأسماء، أي حوارات داخلية أو حتى أوراق عمل تسترشد بها في عملية بناء الدولة. وكذلك لم تقع أي مراجعات ذاتية. وتقودنا هذه الخلاصة لإعادة قراءة صراعات النخب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حينما عانت تلك التنظيمات من الانقسامات وحالات التشرذم، لأسباب قبلية وعشائرية ومالية وشخصية. وهو نفس الأمر الذي تكرر في أعقاب توقيع اتفاقية أديس أبابا 1972. وفي تجربة ما بعد نيفاشا. وبجانب فرصة التحول الديمقراطي، التي إضاعتها هذه التنظيمات، وكأن من المأمول في هذه الفترة الانتقالية بأن تسعى هذه التنظيمات، لبناء نفسها، وأعداد كوادرها، والأهم من ذلك، ممارسة الديمقراطية الداخلية. عندما تسنى لها مشاركة السلطة بالشراكة مع الحركة الشعبية في إطار اتفاقية نيفاشا وبنودها. إلا أن النتائج لم تكن على مستوى التطلعات، نظرا لتضيّيق المجال العام وإغلاقه في أحيان عدة، والذي مارسته الحركة الشعبية. بحيث شكلت هذه الممارسات عائقا أمام تطور الحركة نفسها، وكذلك التنظيمات الأخرى، وتسببت في إضعاف الديمقراطية الحزبية، وشيوع شعار "عباءة زعيم الحزب" من أجل الكسب السياسي والاستزوار. باعتباره أسهل الطرق وأقصرها لتراكم الثروات والمكانة الاجتماعية. لعنة الموارد ثمة تفسير شائع عند الباحثين المهتمين بالصراعات الأهلية بشكل عام وفي أفريقيا بصفة أخص، إذ غالبا ما يلجأ هؤلاء الباحثين إلى أطروحة حروب الموارد الطبيعة، كتفسير وحيد للحروب الأهلية في معظم الأحيان. إذ باتت مقولة حروب الموارد نوعا من التفسيرات الجاهزة في تحليل النزاعات الأهلية، وذلك في إغفالِ تام للعوامل الأخرى المؤثرة. وفي ذات السياق، تُعد أطروحة مايكل روس الشهير ب"نقمة النفط" القائلة بأن البلاد النفطية عرضة لخطر الحروب الأهلية أكثر من غيرها من البلدان الأخرى. وحاول روس بهذه الأطروحة الإجابة على السؤال الرئيسي لماذا يثير النفط صراعا عنيفا؟. ويستخدم بياناتٍ إحصائية والمنهج المقارنة لتفسير أطروحته. في حين، ذهب باحثون آخرون في اتجاه تحليل العلاقة على مستوى الدولة والمجتمع، في أطروحة الدولة الريعية (Rentier States)، وهي في أبسط تعريفها، الدولة التي تعتمد في إيراداتها على تصديرها سلعة واحدة مواردها الطبيعية. وترتبط الأطروحتان بالتركيز على الموارد الطبيعة، كتفسير وحيد للحروب الصراعات الأهلية، وإن اختلفتا في قياس مدى تأثير العامل الاقتصادي في نشوء الحروب. وأيا كان الأمر، فإنه من الممكن جزئيا الاعتراف بدور النفط في نشوء الحرب. وفي الوقت نفسه، لا يمكن إرجاء اندلاع أحداث العنف في ليلة الخامس عشر من ديسمبر 2013، لعامل النفط أو العامل الاقتصادي برمته. وبذلك، يمكننا النظر إلى العوامل الأخرى التي أدت لتصاعد الأحداث، بمعني ما هي هذه العوامل المؤثرة؟. وكيف يمكن تفسير اندلاع الحرب بعد سنتين فقط من قيام الدولة. ويميل كاتب هذه السطور إلى الاعتقاد بأن التفسيرات المذكورة، تُغفل دور النخب المحلية في اندلاع الصراعات. وأتفق هنا مع أطروحة مايكل بروان في دراسته المميزة "The Causes of Internal Conflict"، والتي يرفض فيها المسلّمة التي غالبًا ما يثيرها الباحثين في تحليل الصراعات، وهي فرضية الأحقاد التاريخية (Ancient Hatreds). إذ يرى، إنَّ هذا العامل وحده ليس كافيًا لتفسير النزاعات. ويحاجج، على ضرورة أخذ أدوار النخب المحلية، كمقاربة تفسيرية. وبرأيي، تشكّل هذه الأطروحة مقاربة مختلفة عن المقاربات التقليدية التي تٌحصر النزاعات في أسباب مثل ضعف الدولة، العامل التاريخي أو الديني، أو القبلي، وخصوصا الأخيرة (أٌنظر مقالنا المنشور بعنوان "الذكرى السادسة: جنوب السودان وبؤس الواقع"، موقع نون بوست، 15 يوليو 2017). أزمة غياب الرؤية اشتركت معظم التحليلات التي حاولت تفسير الحرب الأهلية في البلاد، بأن إحدى أسباب هذه الحرب، تمثلت في أزمة غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة، ولنخب الحركة الشعبية بصفة أخص، بحكم موقعهم في الدولة. فالرحيل المبكر لزعيمها التاريخي الدكتور جون قرنق، كشف فراغا في فكر قيادة الحركة الشعبية. ولكن الخسارة الأكبر في تقديرنا، كانت ولا تزال في استمرار هذا العجز التنظيمي لقيادات الحركة، فهي لم تضع أي أفكار جديدة منذ غياب الراحل. وبعبارة أخرى، لم تراجع الحركة الشعبية مرتكزاتها الفكرية والإيديولوجية، وكأن عجلة الحركة قد توقف في مرحلة إنجاز الكفاح المسلح!. فهل كان قيام الدولة هدفا في حد ذاته للحركة الشعبية، أم مرحلة من مراحل مشروع السودان الجديد؟. فالبحث عن الأسباب التي أدت لنشوء الأزمة الراهنة، لا تنحصر داخل الحركة الشعبية، مثلما غرقت الكثير من الكتابات التي استعرضت خفايا وأبعاد الصراع. وفي هذا الإطار، يبرز كتاب المبعوثة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة هيلدا جونسون التي أفاضت في توثيق هذه التفاصيل بدقة في كتابها( South Sudan: The Untold Story from Independence to Civil War) . ما يجعل كتابها ضمن المصادر الأساسية، دون التقليل من الكتابات الأخرى التي تناولت الفترة ذاتها. ولم تكن التنظيمات الأخرى بأي حال أفضل من الحركة الشعبية. فهي قد غرقت في مشاكلها الداخلية وصراعاتها قادتها، دون أن ترتقي أو تقدم خطابا سياسيا يتجاوز الشروح اليومية لأزماتنا. اتفاقيات السلام والفرص المهدورة كان وصول أطراف النزاع لاتفاق إنهاء الصراع في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وثم في جوبا أغسطس 2015، مؤشرا يدعو للتفاؤل لما احتوته الاتفاقية من بنود تصلح بأن تكون خارطة عمل للتحول المؤسساتي وبناء دولة القانون. إلا أحداث القصر الجمهوري المعروفة اختصارا "بمعركةJ1 " في يوليو 2016، أنهت عمليا اتفاقية السلام، بالرغم من نفى الرئيس ونائبه الأول تعبان دينق ذلك. ولم يختلف الحال كثيرا في اتفاقية السلام الأخيرة، وإن كانت الأولى (اتفاقية أغسطس 2015)، أكثر حظوظا كونها حققت اعترافا واضحا بفشل التجربة السابقة للاتفاق، وقدمت بنودا للانتقال إلى الديمقراطية وحكم القانون، بعكس اتفاقية السلام الأخيرة، التي لم ترى النور حتى الآن. واعوجاج منهج الوساطة التي دفعت الطرفين لمهر الاتفاق برغبة ذاتية ومصالح خاصة بها. وتؤكد هذه الحالة فشل وساطة الإيقاد والدول الضامنة (يوغندا والسودان) من معاجلة جذور الأزمة بشقها السياسي والاقتصادي والعسكري، لتضارب المصالح. فكلا النظامين الضامنين حاولا الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحهما. ما يجعل أي اتفاقية مستقبلية لإنهاء النزاع عرضة للفشل إذا انحصرت في تقاسم السلطة. مقترحات للمضي قدما هناك إذن ضرورة ماسة للتُعلم من الأخطاء السابقة، ولا بد من التذكير هنا بأهمية الإقرار بهذه الأخطاء، لتفادى سيناريو انهيار الدولة أو الاستمرار في الحلقة الشريرة من الحروب الأهلية. ولذلك، يجب الضغط على جميع الفاعلين السياسيين والعسكريين، بصرف النظر عن الأسماء والكيانات على حدّ سواء، والعمل على تغليب منهج التبرؤ الشخصي من الأخطاء الذي يسود الساحة الآن، بُغية الوصول لتسوية سياسية جديدة تتجاوز اتفاقيات تقاسم السلطة والثروة. فمعالجة الأزمة الراهنة تحتاج إلى التفكير الجاد والعميق، لتحليل علل السنوات الثماني. وتقديم مقترحات عملية للمضي قدما. وعليه، لابد من عقد مؤتمر مائدة مستديرة لمناقشة القضايا الأساسية التي لم تتاح للقوى السياسة مخاطبتها في ظل مناخ الاستقطاب والحروب والتخوين، والشروع في بدء مصالحة وطنية بعيدا عن تكتيكات الكسب المرحلي. وتمكين مؤسسات الإدارة الأهلية والقوى المدنية المجتمعية من أداء أدوار أكثر فعالية، فأزماتنا ليست كلها مرتبطة بالسياسة كما نشير دائما. بل هي مرتبطة بأنماط تفكيرنا قبل أي شيء آخر. وبناءً عيله، تُبرز الحاجة لمزيد من القراءات النقدية حتى لا تكون الدولة موجودة واقعيا، ولكنها بمثابة حلما ضائع في مخليتنا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.