أخطأت قوي التغيير مرتين بخصوص أدارتها لملف السلام كونها أستهانت بهذا الملف المعقد اذ كان افتراضا ان يكون في اولويات أهتماماتها وهو الذي يشكل أكثر من خمسون بالمائة من مشاكل الدولة السودانية وبالتالي كان ينبغي أستصحابه بما يوازي حجمه قبل البدء في المفاوضات مع المجلس العسكري , وثانيا انها عندما تداركت حجم المشكلة لجأت لتكملة النواقص بالمفاوضات مع بعض الحركات المسلحة في اديس ابابا , وكان الأفضل أن تتم المفاوضات مع الحركات المسلحة جميعها عقب تشكيل الحكومة المدنية , وبالتالي تجاهل الحركات المسلحة الموقعة مع قوي اعلان الحرية والتغيير في المفاوضات حتي توقيع الوثيقة السياسية وهي حقيقة أكدها الحزب الشيوعي في بيان له وعضدها التوم هحو أحد قيادات الجبهة الثورية من خلال مؤتمر صحفي وبالتالي كانت محصلة التجاهل كما اشار د الشفيع خضر وهو كان حاضرا في اديس ابابا أنها أثارت غضب الجبهة الثورية وصلت حد التخوين والأتهامات بالتأمر , صحيح أن الأمر تم تداركه، لكن يبدو أن الظاهرة ستلازمنا لفترة طويلة. قوي التغيير لم تتعلم من أخطائها وبدلا من أن ترجئ التفاوض مع بقية الحركات المسلحة الي ما بعد تشكيل الحكومة المدنية رضيت لنفسها بقيادة د ابراهيم الأمين بأن تتبع وفد المجلس العسكري الي جوبا لمقابلة قيادة الحركة الشعبية قيادة الحلو, وكان في بالهم أن يأتوا بصيد ثمين , ولكن موقف الحركة الشعبية قيادة الحلو كان حاسما وأكثر وعيا وهي تعلن تمسكها بموقفها الثابت "في التفاوض مع حكومة تتمخض عن الإتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري وتحظى بقبول وتأييد الشعب السوداني من أجل تحقيق السلام الشامل والعادل بمخاطبة جذور الأزمة وإعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة" وبالتالي الأتفاق مع الحركات المسلحة التي تشكل الجبهة الثورية ليست مؤثرة بأعتبار أن التيارات المسلحة غير الموقعة ستكون لها رؤي مختلفة ستدفع بها حال جلوسها في المفاوضات مع الحكومة الأنتقالية. ان قضية الدولة السودانية معقدة للغاية ولا يمكن الأستهانة بها كما فعلت قوي التغيير و أختزالها كأزمة عابرة وحسمها بأليات الحسم المثقفاتي , فبات من الضروري مناقشة الواقع بوضوح ان اريدت الحقائق كاملة , و من هو جاهل بالحقائق كاملة لا بد عارف بها غدا , وقد أستفزتني كلمات د امجد فريد القيادي بالحرية والتغيير بتاريخ16/7 مساءا مع ضيوف اخرين للجزيرة مباشر وهو يتحدث عن ملف الحرب و السلام و الحركات المسلحة بطريقة سطحية بأعتبار سهولة حلها وبالتالي يغالط الواقع بأنها ليست نتاج ازمات متراكمة بدأت غداة خروج المستعمر و بالتالي تتطلب مخاطبة جذور المشكلة تاريخيا. أن النزاعات والأزمات المعقدة التي تشهدها الدولة السودانية في تقديري ما هي الا عنوان بارز لمشكلة سياسية شائكة هي سببها الجذري وعلي كثرة ما قيل وكتب عن هذه النزاعات , فقلما صوب الحديث عن المشكلة الرئيسية لأن الانظمة الحاكمة هي المسؤلة عنها بالدرجة الاولي تريد صرف الانظار لجهات اخري (المؤامرة الخارجية) تفاديا للحقيقة وهروبا من استحقاقاتها , ونحسب ان السبب الجذري للنزاعات والأشكالات التي أعاقت تطور الدولة السودانية هو فشل الانظمة الحاكمة في بناء الدولة القومية عقب الاستقلال وفقا لمفهومها الحقيقي , فالدولة القومية هي حاضنة مفاهيم الحكم المعاصرة مثل المساواة علي اساس المواطنة وحكم القانون وكفالة الحقوق المدنية,وأهم سمات الدولة القومية المعاصرة ان تكون الرابطة الوطنية هي اساس الانتماء دون الغاء لخطوات الانتماءات الثانوية اثنية كانت او دينية , و لا بد ان يكون الانتماء الوطني طاغيا ومهيمنا عليها , وهيمنة الرابطة الوطنية علي بقية الانتماءات هي قاعدة المساواة الفعلية علي أساس المواطنة التي نفتقدها كسودانيين في هذا الوطن المنكوب,وبدونها تصبح نصوص مثل المساواة في الحقوق والواجبات وكفالة الحقوق المدنية مجرد شعارات يتزيأ بها الدستور بدون أي أثر حقيقي علي أرض الواقع. الدولة القومية لا تتحقق لمجرد وجود كيان قطري بحدود معلومة علي رأسها حكومة ولها علم ونشيد وطني ودستور وغير ذلك من مظاهر الدولة كما نشاهد في الحالة السودانية المثيرة للجدال , فمثل هذه المظاهر يمكن أن توجد في أي دولة تمارس الفصل العنصري بالقانون أو بالامر الواقع, ومن المعلوم ان المجتمعات الغربية قد مرت بمراحل من الصراعات الحادة والدامية بين كيانات مختلفة علي الاسس الاثنية والدينية او الجهوية او الطبقية قبل أن تولد الدولة القومية لتصهر كل تلك الكيانات في بوتقة واحدة ويصبح الانتماء الوطني هو الاساس دون الغاء الانتماءات الثانوية. في دول أخري مثل الهند انتبه اباء الاستقلال لخطورة هذه الاشكالات المهددة لتماسك الدولة فأنتهجوا سياسات لجعل الدولة قومية وتمثيلية ومستوعبة ومعبرة عن كل فئات المجتمع وقد اصابت نجاحا مقدرا , وبفضل هذه السياسات بلغ عدد الرؤساء المسلمين في الهند منذ الاستقلال(4) بالرغم من ان نسبة المسلمين في الهند لا تتعدي نسبة 10% وبالرغم من ان النظام السياسي للحكم في الهند جمهوري برلماني فأن لمنصب الرئيس كرمز للسيادة أهميته ومغزاه, وفي ماليزيا نجح حكامها بدرجة الامتياز في تأسيس دولة قومية مستوعبة وتمثيلية رغم التبياينات الاثنية والدينية وتلك التجربة الرائدة التي خطها المفكر الرئيس الاسبق لماليزيا مهاتير محمد في كتاب اسماه (بناء الامة) أما في السودان أخفق اباء الاستقلال وكل الانظمة التي مرت علي الحكم في بناء الدولة القومية , وقد عمدت النخبة السودانية بعد الاستغلال علي احتكار السلطة والثروة في أطرها الجهوية لا فرق في ذلك بين الانظمة العسكرية والحزبية , فبعيدا عن المجادلات دعونا نلغي نظرة علي هيكلة الدولة السودانية منذ الاستقلال والاختلال الواضح في توزيع السلطه بما لا يتناسب الحجم الديمقرافي للسكان , فقد بدأ الاختلال الوظيفي منذ سودنه الوظائف علي اعتاب الاستقلال وظل يتعمق بأستمرار بوهم التفاوت التعليمي الكذوب , ويقال ذات الشيئ عن السلطة الدستورية وحظوظ الثروة بين القوميات وقد انتظر الجنوبيين حتي توقيع نيفاشا لينتزعوا حقوقهم بقوة السلاح , ولكن نيفاشا باتت فقط مفصلة علي الجنوبيين وبات غيرهم من القوميات المهمشه بعيدا عن حظه في السلطة والثروة. , انحياز السلطة المركزية علي الاساس العرقي أضحت واضحة لا لبس فيها ,و كدليل يغني عن المجادلات نستشهد بمشهد ترشيح المؤتمر الوطني لمرشحين الرئاسة في المؤتمر العام الأخير ودفعه بخمسة وجوه تنتمي الي الشمال النيلي كسقطة نجلاء تبين حقيقة هذه العصبة الغائصة في وحل العنصرية حتي اخمض اذنيها , والمؤسف أن الأفة البغيضة لا تقتصر علي الوظيفة العامة فقط.... ! بل تمتد الي الصراعات القبلية حين تكون اطراف النزاع قبائل عربية في مواجهة قبائل غيرناطقة باللغة العربية, وانحياز السلطة بدافع العروبة بات واضحا لا لبس فيها , وقد جاءت احداث دارفور لتقطع قول كل خطيب,وكان من الطبيعي مع تنامي الوعي بالمصالح وسط الفئات المهمشة ان تتصاعد التناقضات, والمشكلة ان النخب السياسية الحاكمة لم تنتبه الي حقيقة ما كان تعنيه اصوات الاحتجاج التي وجهت بالقمع بدلا عن الخطوات التصحيحية لتنزلق البلاد نحو مهاوي العنف كجرس انذار علي اقتراب وقوع الكارثة الكبري . وبالتالي اي خطوة نحو تحقيق سلام او وفاق حقيقي في السودان لن يتحقق قفزا علي مخاطبة جذور المشكلة , وكذلك متطلبات العدالة اما قصاصا او تعويضا او عفوا طوعيا من المظلوم ,وبعيدا عن الانزلاق عن الهراء الذي تردده ابواق النظام السابق من دور الايادي الخارجية كالصهيونية والصليبية والامبريالية في افتعال الازمة استهدافا للاسلام وثروات البلاد , علي القوي المدنية تعقد العزم بعيدا عن مناورات المجلس العسكري للوصول الي حل عادل للازمة برؤية قومية , والاستجابة للمطالب الجوهرية التي ترفعها الحركات المسلحة ابتداء من مخاطبة جذور المشكلة السودانية وكذلك تحديد التعويضات المناسبة عن الانفس والممتلكات, واعطاء الاقاليم المهمشة في السودان نصيبها في السلطة والثروة والخدمة المدنية حسب ثقلها السكاني, وانزال الامر الواقع الذي فرضه العدوان في الاستيلاء علي اراضي قبائل لصالح اخري ,ونزع السلاح واجراء محاكمات عادلة , ولا مهرب من التفاوض مع الحركات المؤثرة لأن مشكلتها تتعلق اجزاء كبيرة منها بتنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل الخاصة بالمناطق الثلاثة. وبناء علي تلك المسببات ماذا لو تعثرت خطوات السلام ؟ هل من الممكن ان تنتقل الي محطة ما بعد الفترة الأنتقالية ؟ هل يكون نظام الحكم الذاتي هو الدواء الناجع لمداواة اشكالات الدولة السودانية حال تعثر ملف السلام ؟ فنحن في امس الحوجة الي نظام ديمقراطي متفق عليه من جميع الفئات التي تشكل الدولة السودانية لأن الاخفاق في جعل الدولة قومية هو الذي ادي الي انفصال الجنوب , وهذا الاخفاق الذي ادي الي مشكلة دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق مهما كانت المزاعم الفارغة وليس هناك شاهد علي ان الدولة السودانية لم تكن قومية او تمثيلية اصدق من الكتاب الاسود , فالحل بالاعتراف الصادق بكل الروافد المكونه للهوية السودانية والتعبير عنها بصورة متوازنه في الخطاب الرسمي وتهيئة المناخ المعافي للتفاعل الديمقراطي ,ولكن تتطلب جملة اجراءات منها مراجعه مناهج التعليم وتنقيحها من كافة اشارات الاستعلاء الجهوي التي تحفل بها ودعم اللغات المحليه وكتابه التاريخ الوطني بأمانه ونزاهه علمية تعكس اسهامات كل الفئات التي تشكل الدولة السودانية ودورها في تشكيل الوطن , اما محالة فرض الوهمة الاحادية المهيمنة فليست سوي اصرارا علي منطق الصدام لن يشفع لها التدثر بثوب القومية لا نري جوهره . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.