حتى اطفال الروضة، و ما قبل الروضة اصبحوا يصيحون مدنيااااوو، و هالنى قبل يومين جاورت احدى السيارات، داخلها طفل اظنه لم يتخط الثالثة من عمره...صرخ وهو يخرج رأسه من نافذة السيارة..بشقاوة الاطفال المحببة مدنيااااووو، و انتابنى ضحك عميق ، وسرحت بعيدا افكر فى العلاقة بين الملكيين - المدنيين- والعسكريين، ودارت فى خاطرى مشاهد عدة جمعتها عبر مراحل عدة من حياتى عن العسكرتارية والمدنية لعلها تعطى اضاءات عما أريد الخلاصة اليه --2--- أنا من جيل عاصر قيادة جمال عبد الناصر ، ضابط لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، قاد مع زمرة من الضباط انقلاباعسكريا ضد نظام تعددى متعثر تحت ظل ملكية مسيطرة و تحول جمال بفضل اعلام مصرى موجه الى بطل قومى ، ويكفى أن أقول حتى بعد هزيمة 1967 المذلة ، و حين جاء عبد الناصر للخرطوم لحضور مؤتمر عربى جامع، خرجت جماهير غفيرة لاستقباله استقبالا حاشدا لدرجة أنها حملت سيارته على اكتافها!!، و حين موته تحولت بيوت الخرطوم وغيرها من المدن والقرى الى بيوت بكاء و عويل... لقد وجدوا فيه نقاءا واخلاصا واهتماما لتحقيق العدالة الاجتماعية. وأخال ان تجربة عبد الناصر اعطت للجيوش فى العالم العربى والافريقى الحق بامكانية دخولها فى عالم السياسة ، و تكونت تنظيمات تحت مسمى حركة الضباط الاحرار ، عشنا تجارب من اخراجاتها فى مايو1969....وفتحت الطريق مرة اخرى تحت مسميات مختلفة لنعيش تجربة30 يونيو 1989 ---3----- ومن خلال التجارب التى أدت الى بروز دور الجيوش فى المجال السياسى ، تكرست أفكار بأن المدنيين( الملكيين ) لا يتفقون على كلمة وموقف ، و يجيدون الجدال، بينما العسكر منضبطون و ينجزون الاعمال الموكلة اليهم بدقة وهمة ، واذكر فى هذا المضمار و لكيما يؤكد لى حقيقة ان العسكرهم القادرون على الانجاز ، قال لى أحد الضباط العظام، ...الم تلاحظ كان اليسار ينادى فى ندواته بتأميم الشركات والبنوك الخاصة ، و حين اعتلى النميرى السطة و بمجرد قرار سريع أمم الشركات والبنوك الاجنبية .. و حين دارت الدنيا وجاءت نخب تنادى بأن الحاكمية لله.. وبح صوتها بتطبيق الشريعة الاسلامية ..حقق تلك الامانى النميرى بقرارات مشت على الارض !! --4---- و تمشيا مع ما ذكرته اعلاه لا انسى ما قاله لى زميل الدراسة الراحل الزبير محمد صالح فى مقابلة لى معه ابان الايام الاولى من بداية ماسمى بثورة الانقاذ :- صحيح نحن ليس لدينا كبير علم بالاقتصاد والدبلوماسية ..الخ ، ولكننا كعسكر نستطيع ادارة البلاد ، فى ايعاز واضح بانهم منضبطون .... و يستطيعون قيادة الاخريين . و اذكر اثناء دورات دورات تدريبية عسكرية كان لى شرف الانتماء اليها منذ دراستنا بالمدارس ، و منذ التحاقى بسلك الادارة المحلية ، كان ضباط الصف الذين يشرفون على تدريبنا فى جلساتهم يتهكمون على من يسمونهم الملكيين ، و لم يكن غريبا ان تسمع عبارات تقريرية عند تقييم شخص ما :-ده... ملكى ساكت ، مبدين قناعاتهم بان هناك صنفين من البشر عسكر متسمون بالانضباط وفى الضفةالاخرى ملكيين متسيبين لا يعتمد عليهم !! --5---- فى هذا المضمار ، وفى اطار اعدادنا كضباط اداريين، أصر الراحل الادارى الفذ جعفر بخيت ان يرسلنا الى سلاح المدرعات للتدريب كجنود مستجدين، وأخال انه كان يريد ادخالنا فى اطار الانضباط الذى ينشده لتحقيق الغايات. و أذكر حادثتين عالقتين بالذهن عن نوعية الاوامر و ما ينبغى علينا الالتزام بها. ففى يوم من الايام امرنا التعلمنجى احضار ( كهنة ) لتنظيف سلاح الكلانشكوف .. لبدء تعليمنا فك وتركيب السلاح ، و كنت قد نسيت احضار هذه الكهنة لعدم علمى بماهية هذه الكهنة الملعونة مع زملاء لى .. وتعرضنا فى ذاك اليوم الى عقاب ادارى قاس لمدة ناهزت الثلاث ساعات. تجربة أخرى ما زالت تعشش فى الذاكرة ، ذات يوم وبعد سلسلة من التدريبات التى تشمل الجرى لمسافات طويلة ،و طوابير البيادة ، هرعنا الى غرفة الطعام.. واعدين انفسنا بطعام هنىء رغم علمنا بأنه لن يكون مغايرا لما نتناوله يوميا من طبيخ غير محدد الهوية..فجأة برز ضابط صغير السن .. و صرخ بصوت جهورى :- دفعة اوقفوا الاكل !...ذهلنا وامتعضنا من هذا الامر العجيب فى توقيته ، وبلغ بنا الغضب مبلغا ينذر بالنية الى اعلان العصيان..وحتى الهروب النهائى من هذا الطغيان ، و هنا جاءنا الضابط العظيم وأمرنا بالوقوف وقال:- دفعة .. أعلموا بان نظامنا لايقبل رفض الاوامر الصادرة، عليك طاعة الامر وتنفيذه، وفى حالة الشعور بالغبن لاى أمرصادرعليكم برفع التظلم للمشرف على التدريبات ليقوم بدوره للضابط العظيم للنظر فيه واصدار القرار النهائى بشأنه...دهشنا وشعرنا بأننا فى عالم اخر ... يتحول فيه الانسان الى الة ميكانيكية تسير وفق قوانين صارمة..لا تقبل المساومة , - 6 --- نقلت الى سفارتنا فى الصين لأعمل تحت امرة السفير اللواء الراحل مبارك عثمان رحمة...وكنت قد سمعت بأنه صارم، صعب المراس ،كان عجبى انه رحب بمقدمى بمنزله ..واعد لى ولاسرتى وليمة رائعة ، و اثناء تناولنا الطعام شعرت بكرمه وطيبته .. وبصراحة لا يتمتع بها الكثير من قادة العمل العام .. قال بأنه احيانا يغضب و يخرج من طوره حين يجد ان عملا معينا لا يعجبه أو اشتم بأن هناك ثمة لغط غير مستحب بين العاملين بالبعثة، وتمنى لى اقامة طيبة فى الصين .. ناصحا لى بأن لا أغضب لو وجد منه بعضا من الغلظة التى كانت سمة من سمات الحياة العسكرية التى عاش فيها عقودامن السنوات،و حقيقة شعرت براحة نفسية لأننى وجدت انسانا واضحا يتحدث بصدق عن مشاعره.. و لا أنكر بأننى استفدت كثيرا من التدريب الداخلى فى العمل بالسفارات تحت قيادة الراحل ، فقد كان دقيقا فى تحديد مهام كل العاملين معه ، ولو حدث ان ذهب اليه أحد العاملين للغيبة فى حق زميل بالبعثة ،كان لا يرضى بما ينقل اليه و يسرع فى مناداة الاخر قائلا بأنه يحبذ ان تقول ما تقوله بحضور من تغتابه...وعاش العاملين فى البعثة فى جو عائلى نقى...، وقد عايشت قصة نادرة ما زلت اسردها للأصدقاء والمعارف...لأظهر كيف يكون الانسان كبيرا ومدركا لطبائع الناس .. كان يعمل معنا ادارى كثير الشكوى من بعد مطار بكين من مقر البعثة ، وقد دأب الذهاب الى المطارلاحضار الحقيبة الدبلوماسية وكان عليه احضار الحقيبة فى المركز الثقافى الملحق بالسفارة ، أتى صاحبنا هذا بالحقيبة وقد بلغ به الحنق مبلغا ، تصدرمنه أقوال تحت وطأة مالقيه من متاعب بالمطار ، و بصوت عال طفق يقول ... كمان الحقيبةعايزها فى المركز .. ينعل ابواليوم اللى جابنا هنا .. وأطلق كثيرا من النعوت غير المستحبة فى حق السفير اللواء .... ورغم المحاولات بالايماءات ان السفير بنفسه داخل السفارة ،و مايصدر منه يسمعه بوضوح ، ولكن الغضب أعماه ، وفى تلك اللحظات توارى السفير اللواء فى احدى المكاتب، وطلبنا من الادارى المغادرة لمنزله ليرتاح، وخرج السفير من مخبئه الاختيارى والبسمة البريئة تغطى وجهه وهويقول يارب ليه.. كان غاضبا .. ذهبنا الى المركز لفتح الحقيبة ... و دعانا لتخفيف العمل على الادارى ، ما أدهشنى أنه لم يسع للتحرى عما قاله الادارى فى حقه لعلمه بان ماصدر منه كان ناجما من ضغوط لم يقدر على استعمالها ، وأخال ان هذه الواقعة لو حدثت لآخرين لظللنا اياما وليال فى لجان تحقيق .. و فرض عقوبات أقلها كتابة تقرير سلبى عن ا لجانى أو حتى السعى لطرده نهائيا من الخدمة ,..ويتم الحكى عنها للقاصى والدانى !! ---7----- جدلية العلاقة بين المدنيين والعسكريين تحتاج الى مقاربة عقلانية ، لان كلا الطرفين يحتاجان لبعضهما البعض، والخصومة بينهما وكأننا نسمح لطائر الوطن ان يحلق قى الفضاء بجناح واحد الصفة الرئيسة بالمؤسسة العسكرية الالتزام بالانضباط. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.