جاءت كل الأديان السماوية لدعوة العباد إلى عبادة رب العباد. ووضعت لذلك منهجا واضحا لا يزيغ عنه إلا هالك. واجتمعت كل الأديان السماوية على تعزيز مكانة النفس الإنسانية وعظمتها وحرمت قتلها الإ بالحق. ذلك أن من عبادة الله إعمار الأرض الذي يتجلى في أبهى صوره في ديمومة السلام لأن الحرب تزهق الأرواح وتدمر العمار. ونحن من هذا المنظور نؤيد الاتفاقات التي تم التوقيع عليها مؤخرا بين دولتي السودان. لأن هذه الاتفاقات تمثل خطوة مهمة للغاية في الاتجاه الصحيح ونأمل أن تسهم في تحقيق السلام المستدام. ولكن ما الذي يجعل اتفاقية أديس أبابا قادرة على تحقيق ما فشلت فيه الاتفاقيات السابقة؟ فكل الاتفاقات الكثيرة التي تم توقيعها مع الجنوب منذ إندلاع الحرب عام 1955م وكذلك مع حركات التمرد بل وحتي مع الأحزاب السياسية والمجموعات المتمردة المختلفة تجعلنا نعيد النظر في هذه الاتفاقات وتفرض ضرورة تدارسها من جديد، لأن بعضها قد نجحت في تحقيق السلام ولكنها، كلها جميعها، فشلت في تحقيق السلام المستدام. وأعتقد أن ما نصبوا إليه جميعا ليس فقط هو السلام، بل حتما هو السلام المستدام الذي به تتحق العبادة الحقة الخالصة لله سبحانة وتعالى، وبه تحفظ الأنفس والدماء، وبه يتحقق الاستقرار والتنمية والرفاهية، وفيه تعًمر الأرض وتزدان. رغم كل ما قيل ويقال عن الاتفاقايت السابقة التي أبرمت تحديدا مع الجنوبيين أعتقد أنها اتفاقيات قصد بها أصلا حقن الدماء واتاحة الفرصة للتعايش السلمي المستدام بين السودانيين سواء في دولة واحدة أو أكثر من دولة مع العمل لتحقيق الاستقرار والتنمية والرفاهية. وأعتقد أنها من حيث الشمول لا تختلف عن الاتفاقات الثمان التي وقعت مؤخرا في أديس أبابا. وإذا كان البعض يقول بتوفر الإرادة السياسية في اتفاق أديس أبابا بحجم أكبر من الاتفاقيات السابقة، الشئ الذي يمكن أن يمثل، في نظر هؤلاء، الضمان الأكبر لنجاح هذه الاتفاقيات، نجد أن البعض الآخر يعتقد أن الاتفاقيات السابقة كانت لا تخلو كذلك من إرادة سياسية بجانب أنها كانت محروسة بالعديد من الدول الكبري والمنظمات الإقليمية والدولية. ويقول هؤلاء إن الإرادة السياسية التي توفرت لدى الطرف الآخر في مفاوضات أديس أبابا، لم تكن إرادة ذاتية الدفع أو أصيلة المنشأ مائة بالمائة، إذ أنها جاءت استجابة لمطالب من الخارج، ولا نريد أن نقول أنها فرضت فرضا من قوى خارجية محددة، ذلك بعد أحداث هجيلج ما جعل الجميع، خاصة مجلس الأمن، يستشعر خطورة الأمر على السلم والأمن الدوليين. إذا الاتفاقيات السابقة بما فيها اتفاق نيفاشا 2005م لا تختلف كثيرا، في جوهرها، عن اتفاق أديس أبابا 2012م، من حيث توفر الإرادة السياسية والرغبة في تحقيق السلام المستدام وذلك برعاية ووساطة أطراف خارجية. فإذا تماثلت الاتفاقيات السابقة مع الجنوبيين، في جوهرها، مع اتفاق أديس أبابا الأخير، وإذا ذهبنا إلى أن الاتفاقيات السابقة قد فشلت في تحقيق السلام المستدام بدليل تجدد النزاعات في مناطق مختلفة من البلاد، إذا ما هي الضمانات التي تجعلنا، رغم فرحنا وسعادتنا العظيمة به، نثق في اتفاق أديس أبابا وننتظر منه تحقيق ما عجزت الاتفاقايات السابقة عن تحقيقه؟ إلا وهو السلام المستدام! نحن قد أمنًا أعلاه بأن الاتفاقيات السابقة، بكل ما قيل ويقال عنها، إنها قد قامت على بنية تحتية قوية من حسن النوايا، وأنها قد ساهمت في حقن دماء أبناء الوطن الواحد وأنه قصد بها توفير فرصة للتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد بهدف توفير بيئة مناسبة للتقدم للأمام وتحقيق الرفاهية من خلال التنمية والاستقرار والسلام المستدام. إذا السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا فشلت الاتفاقيات السابقة في تحقيق السلام المستدام؟ وماذا يمكننا أن نفعل حتي لا يكون مصير اتفاق أديس أبابا الأخير هو نفس مصير تلك الاتفاقيات؟ أحيانا كثيرة يلبس علينا معرفة الفرق بين صناعة السلام وبناءه. فصناعة السلام أن يجلس أطراف النزاع، غالبا بوساطة محلية أو إقليمية أو أممية، في مفاوضات مباشرة أوغير مباشرة بغية التوصل إلى حل سلمي للنزاع. وقد تستمر هذه المفاوضات إلى فترات طويلة كما حدث بين طرفي النزاع في السودان (الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان)، حتي يتوصل الطرفان إلى اتفاق سلام كما حدث في نيفاشا عام 2005م بوساطة من الايقاد وشركائها، وكما حدث مؤخرا بين ذات الطرفين، وإن اختلف وصف وفد الحركة الشعبية المفاوض إلى وفد دولة جنوب السودان، في المفاوضات التي جرت بالعاصمة الأثيوبية، والتي استمرت أيضا لفترة ليست بالقصيرة قبل التوقيع على اتفاق أديس أبابا من قبل رئيسي الدولتين. من جانب آخر نجد أن بناء السلام يشمل الفترة الزمنية التي تلي صناعة السلام وحفظه (حفظه يكون عادة من خلال إرسال قوات أجنبية تفصل بين طرفي النزاع منعا لتجدد الاشتباكات بينهما)، كما يعني الاهتمام بمختلف القضايا التي تلي توقف النزاع بدأ بتعزيز مقدرات منظمات المجتمع المدني، وإعادة هياكل الدولة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية والعدلية والنظامية ودعم المشروع الديمقراطي والحكم الراشد وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد وتحقيق مبدأ الشفافية، مرورا بترسيخ ثقافة السلام ومبادئ الحوار البناء ونبذ العنف وحل المشاكل بالوسائل السلمية والمساهمة في تغطية الفجوات في الخدمات الأساسية من صحة وتعليم ورعاية للمتضررين من الحرب والنزاع وإعادة بناء العلاقات المجتمعية بما يحقق السلام المستدام، ورعاية النازحين واللاجئين والمساعدة في إعادة توطينهم، وغيره. بناء على ذلك لا أعتقد أنه قد فات على الطرفين أهمية الدور الذي يضطلع به بناء السلام في تحقيق الاستقرار والتنمية والسلام المستدام، كما لم يفت عليهم أن صنع السلام لا يعني، بأي شكل من الأشكال، بناءه، وإن كانت بعض مهام بناء السلام يقوم بها حفظة السلام مثالا على ذلك عمليات نزع السلاح! وبالتالي لا يعني صنع السلام بداهة تحقيق السلام المستدام. فما فعله الطرفان، سواء في الاتفاقيات السابقة أو اتفاقية أديس أبابا الأخيرة، كان صناعة للسلام، وكان يفترض أن تكون الخطوة التالية لذلك هو الاهتمام بعملية بناء السلام الذي يتمثل في إنزال هذه الاتفاقيات إلى أرض الواقع حتي تمشي بين الناس في طرفي البلد الواحد، آنذاك، وفي دولتي السودان حاليا. وإنزال الاتفاق إلى أرض الواقع في الأصل، وعلى خلاف ما يبدو للكثيرين، ليس من واجب الحكومة فقط، بل هو من واجب الدولة والتي تشمل، بجانب طرفي الاتفاقية، الأحزاب المشاركة في الحكم وأحزاب المعارضة والقطاع الخاص والاتحادات والنقابات والروابط وكل مكونات المجتمع في البلدين وعلى رأسها منظمات المجتمع المدني، وهذا هو بيت القصيد! إن إنزال الاتفاقية أرض الواقع حتي يتعرف الجميع على أهدافها ويشعروا بأهميتها ويعملوا على الدفاع عنها هو من صميم مهام منظمات المجتمع المدني. ولكن أين هو هذا المجتمع المدني في بلادي؟ وأين هو من واجب تحقيق السلام المستدام في دولتي السودان؟ عجزت منظمات المجتمع المدني السودانية القيام بهذا الدور المهم والذي كان يمكن أن يحول بيننا وبين تجدد النزاعات في ربوع البلاد على امتداد العقود الفائتة، خاصة في المناطق المختلفة في الجنوب وفي دارفور، لأنها لا تملك السبيل إلى ذلك. فهي تعاني من أمور جمة أقعدتها عن القيام بدورها في المجتمع. إن تعزيز مقدرات منظمات المجتمع المدني يصب أولا في دلتا سودنة العمل الطوعي، ثم هو يجعل قضايا السلام والسلام المستدام في أيدي وطنية ويعزز مواقف الدولة التفاوضية مع الخارج بأن بالبلاد منظمات مجتمع مدني قادرة على القيام بكل المهام وعلى أحسن وجه وهي تمتلك كوادر مؤهله ومدربة على أفضل نحو بما يؤهلها لتعاون قائم على الندية البناءة مع مثيلاتها من الخارج. ثم إن تعزيز دور منظمات المجتمع المدني الوطنية والقاعدية يجعلها قريبة من موقع الحدث فتعمل على تحقيق السلام المتسدام من جهة، ومن جهة أخري تكون قادرة على استشعار بوادر أي نزاع قبل أن تنفجر فتعمل على معالجتها من خلال دورها في العمل الوقائي ما قد يقي البلاد شر تفجر نزاعات جديدة، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن هناك بعض الجهات، ولا نقول الجميع، التي تتربص بالبلاد ولا تريد لها أن تتقدم وتتفرغ للتنمية ولا أن تنعم بالاستقرار والسلام المستدام. وإذا كنا لا نريد لاتفاق أديس أبابا أن يلاقي ذات مصير الاتفاقايات السابقة فيما يتصل بتحقيق السلام المستدام، علينا، من بين أمور أخرى، أن نعزز من وجود ومقدرات منظمات المجتمع المدني الوطنية والقاعدية بالشكل الذي يمكنها من أداء دورها على النحو الأكمل، وذلك من خلال سن قوانيين ميسرة للتأسيس والتنظيم والعمل على تعزيز مقدرات العاملين في هذا المجال وتوفير بعض الدعم لها بما يمكنها من أداء دورها على الأقل في حدوده الدنيا وكذلك تيسير تشبيك هذه المنظمات بعضها ببعض بربط المنظمات الوطنية بالمنظمات القاعدية من جهة، وربط المنظمات الوطنية بمثيلاتها على المستويين الإقليمي (الأفريقي والعربي والإسلامي) والعالمي من جهة أخرى بقصد توفير التمويل للمشروعات ولتبادل التجارب والخبرات وبناء القدرات، وغير ذلك من متطلبات وضروريات العمل التطوعي والأهلي. إن القرآن يحتوى على عددا كبيرا من القصص وهي تمثل جزءا أصيلا وكبيرا منه وتحتل مكانة عظيمة فيه لأن فيها عظة كافية ومعان نافعة. ونحن إذ نقول ما نقول نرجوا أن نستفيد من تاريخنا مع النزاعات التي نشبت أولى شراراتها حتي قبل أن تنال البلاد استقلالها الكامل، وكذلك أن نستفيد من إرثنا الكبير في التفاوض ومن سابق الاتفاقيات التي أبرمت مع الجهات المختلفة، وأن ونتدارسها بعلمية ومنهجية حتي نعلم مواضع الخلل فنتجنبها، ونقاط الضعف فنعالجها، ونقاط القوة فنعززها، وذلك حتي نستطيع أن نجعل من اتفاقية أديس أبابا الحالية، وغيرها من الاتفاقيات، مدخلا حقيقيا لتحقيق السلام المستدام الذي يفضي بنا إلى الالتفات لتسخير إمكانياتنا وثرواتنا لبناء وطن الحب والتآخي، والاستقرار والتنمية، والسلام والرفاهية، بإذن الله. إننا نقول ذلك لأن قلوبنا تدمي لكل قطرة دم تسيل سواء من بني وطني أو من أي إنسان آخر في أي بقعة من بقاع الأرض، لأن النفس هي النفس، في السودان أو خارجه، مسلمة أو غير مسلمة، ولأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن من أماتها فكأنما أمات الناس جميعا. نقول ذلك لأننا نأمل أن تشمل اللقاءات القادمة بين حكومتي البلدين اتفاقيات أو ملاحق لها تتعلق بتعزيز مقدرات المجتمع المدني في البلدين وتمكينها من القيام بدورها واتاحة الفرص لها للتشبيك وتبادل الخبرات والتجارب لأنها هي المعنية بإنزل الاتفاقيات الموقعة بين البلدين إلى أرض الواقع وبالتالي هي المعنية بتحقيق بناء السلام الذي يمثل أهم أضلع مثلث العملية السلمية بجانب ضلعي صناعة السلام وحفظه. أخيرا: التاريخ يعلمنا: ليس بالاتفاقات وحدها يتحقق السلام المستدام! فالقرآن يقص علينا كيف أن بعض الأمم والعباد لا تحترم العهود ولا المواثيق. ومنذ القرون الوسطي لم تحول الاتفاقايت التي وقعت بين الإمارات المختلفة في وسط أوروبا آنذاك (في ألمانيا اليوم تحديدا) دون وقوع حرب الثلاثين عاما، والدول الغربية كانت قد قامت بعد مرارات الحرب العالمية الأولى بتأسيس "عصبة الأمم" وصاغت لها الاتفاقيات والقوانيين بحضور الجميع وتوقيعهم على الصكوك التي تدعوا إلى أنهاء الحرب وتبشر بالسلام، ولكن هيهات! وكذلك فشلت منظمة الأممالمتحدة في تحقيق السلام المستدام، حتي بعد انتهاء الحرب الباردة وسيادة قطب واحد على العالم. واتفاق نيفاشا لعام 2005م كان قد صمم لبناء أمة سودانية واحدة متطورة متقدمة تنعم بالسلام والأمن والاستقرار والتنمية والرفاهية، ولكن كان هناك من يعمل بليل بهيم على إفشال هذا الاتفاق كما أفشل غيره من قبل. وهذا البعض المتنفذ في جنوب السودان مازال موجودا وما زال يتمتع بنفوذه وعلاقاته المشبوهة ولا شك إنه سيعمل بقوة على إضعاف مواقف جناح السلام بالجنوب بقيادة الرئيس سلفا كير وأعوانه لإفشال اتفاق أديس أبابا الأخير. وهذا البعض قد ينجح إن لم نأخذ حذرنا ونحتاط بأنفسنا لأنفسنا ونمسك بزمام الأمور بأيدنا وأيدي من يريد السلام في البلدين، بالتعاون مع المخلصين بالدول الشقيقية والصديقة والمنظمات الإقليمية والدولية وذلك عملا بحكمة "أعقلها فتوكل". ونحن إن أردنا أن نفعل ذلك علينا أولا أن نأخذ بالأسباب ونهيئ البيئة المناسبة والخصبة لزرع بذرة السلام التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، ثم نقتلع شجرة الخبث من جذورها، لأنها لا تنبت إلإ نكدا في أرض بور ونفوس مريضة بفطرة منتكسة. حينها، وحينها فقط يمكن أن يكون الطريق ممهدا لبناء سلام مستدام يعودا بالخير والاستقرار والتنمية والرفاهية على شعبي البلدين وبالتالي على المنطقة والإقليم وبالتالي على السلم والأمن الدوليين ككل إن شاء الله. والله من راء القصد وهو يهدي السبيل،،، الرسالة أدناه نشرت في موقع سودانايل بتاريخ 18 - 10 – 2012م. رأيت أعادة نشرها وتوجيهها لكم للفائدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.