يستغرب المدرك للتدهور الذي آلت إليه أوضاع السودان، قبول رجل بالتصدي لمعالجة مشكلات عميقة، في بيئة عمل معقدة لا تحكمها العقلانية بالضرورة، فإما أن يكون رجلاً نزيهاً صاحب بصيرة وهمة، أو مجرد باحث عن مجد شخصي وشيء من التجريب. رئيس الوزراء السيد عبدالله حمدوك، كان طوق نجاة لمختلف الأطراف، فهو بالنسبة لجماعة اللجنة الأمنية سكرتير اقتصادي وإداري يرفع عنهم وزر الفشل والعجز عن تسيير عجلة الحياة وطرح حلول للمشكلات، وبالنسبة لقوى الحرية والتغيير شخصية واسعة القبول تقلل حدة الصراع ، وتقدم رهاناً يضيف لرصيدها في حال النجاح، ولا يخصم منها كثيراً عند الفشل، باعتباره شخصية مستقلة، أما بالنسبة للجماهير، فهو تجسيد لطموحات التغيير والحياة الكريمة وفتح صفحة جديدة. لن نتعرض هنا، للعديد من الملاحظات وأوجه النقد حول التطورات التي أعقبت أحداث مذبحة القيادة العامة واستباحة الخرطوم، ولا مسار تحقيق السلام، أو النظام القضائي والعدلي، وعدم الكشف عن إقرارات الذمة المالية للسادة أعضاء مجلس السيادة أو السيد رئيس الوزراء، لكننا، من باب التعاطي مع الوضع القائم على الأقل، سنقفز مباشرة إلى الرؤية الاقتصادية والمالية للسيد رئيس الوزراء. تعويل الحمدوك، على حزمة مساعدات خارجية ب 10 مليارات دولار على مدار عامين، ينطلق من توقعات مفرطة في التفاؤل حسب ما نرى، ولعل حديث وزير الخارجية الألماني في الخرطوم عن رفع قيمة المساعدات السنوية للسودان من 5 إلى 15 مليون يورو، يكفي للاستدلال على سقف المعونات المالية التي يمكن للمجتمع الدولي تقديمها لدولة افريقية متعثرة. وربما يكون السيناريو الأكثر واقعية، هو الحصول على قروض من مؤسسات التمويل الدولية بقيمة مليار دولار أو مليارين، في حال رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والوصول لصفقة بشأن اعفاء أو إعادة جدولة الديون، وهو أمر قد يحتاج لأشهر أو أكثر. لا نرغب بحال في المزايدة على خيارات السيد رئيس الوزراء، لكن بناء استراتيجية إنقاذ الاقتصاد وتحقيق التوازن في مالية الدولة وتوفير السلع الحيوية، على سيناريو المساعدات الأجنبية، هو رهان بلا ضمانات كافية، رغم أنه الحل الأسهل والاسرع. إن المأزق الكبير الذي يواجهه الحمدوك، أن الدولة مفلسة، والاقتصاد والقطاع المصرفي والمجتمع في حالة انهيار، فإن لم يكن التعويل على الغوث الخارجي، فعلام التعويل إذا..؟ قد يبدو ما نطرحه هنا، بالنسبة لرئيس الوزراء، القادم من خلفية النماذج الاقتصادية والتنموية الأنيقة المعاصرة، تهريجاً من عصور الخمسينيات والستينيات السحيقة، لكن الحل من وجهة نظرنا، يكمن في استلهام تجارب راديكالية مثل التي طبقها "ماو" في الصين، كالثورة الثقافية والقفزة الكبرى إلى الأمام، وشعارات بناء الأمة عبر التصدير التي رفعت في دول أخرى، ولا نعنى هنا شيئاً غير شعار "إنقاذ الأمة عبر الزراعة". إن الحل الاقتصادي التنموي الوطني الوحيد الذي يمكن التعويل عليه إلى جانب انتظار المساعدات الخارجية، في المرحلة الحالية، هو إحداث ثورة زراعية كبرى خلال سنوات الفترة الانتقالية الثلاث، من خلال توجيه الموارد المحلية والعون الخارجي لخدمة هذا التحول، ومنح الأولوية المطلقة لتطوير القطاع الزراعي ومضاعفة الإنتاج، بما يفك الاختناق قليلاً ويمكن لاحقاً من بدء التوسع التدريجي نحو تخصيص الموارد للأولويات الأخرى،ومنها تطوير قطاع الثروة الحيوانية، والسياحة، والمعادن، وتعويم الجنيه، ومن ثم توفير الموارد الكافية للتوازن المالي وإطلاق القفزة التنموية الكبرى على مستوى بناء الإنسان من خلال تطوير قطاعات التعليم والصحة والبينة التحتية، وارتياد آفاق الصناعات التحويلية والحلول الاقتصادية والتنموية الأخرى. إن تحقيق هذه الثورة الزراعية الكبرى، يتطلب توفير عناصر متنوعة، تشمل الخبرة الفنية والعلمية الأجنبية، والتمويل، وتأهيل الكوادر المحلية، والإرادة السياسية، وابتكار صيغة فعالة وواقعية للاستفادة من منسوبي القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومجندي الخدمة الوطنية في العملية الزراعية، بعد تقديم تدريب تحويلي مناسب. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.