انقسم الشعب الزيمبابوي بين تيارين نقيضين منذ الإعلان عن وفاة الأب والقائد روبرت موغابي بسنغافورة أثناء تلقيه العلاج. ولم يقتصر هذا السجال بين الشعب الزيمبابوي، بل امتد بين عموم أبناء وبنات القارة الأفريقية، وفي خارجها، حيال النظر إلى إرث القائد الراحل. بين من يرى فيه الزعيم الخالد وآخرون يصنفونه بالدكتاتورية. ويشدّد قسم كبير من مناصريه بأنه استطاع أن يقف في وجه الإمبريالية الغربية بعزةٍ وشموخ، من أجل تحرير شعبه وشعوب القارة الأفريقية بشكلٍ عام ضد الاستعمار الغربي، ولذلك يرونه في نفس المنزلة التي وُضع فيها من قبله، الزعماء الأفارقة والآباء المؤسسون قادة الاستقلال في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. في المقابل، عبر الكثيرون ممن دققوا في سيرة الرجل وممارسته إبان سنوات نضاله، وحينما أصبح رئيسيا لزيمبابوي لنحو أربعة عقود، ووجدوا الفرق البائن بين الرجلين، فيمجدون موغابي قائد ثورة التحرير، وينتقدون موغابي الرئيس الدكتاتور، الذي أوصل بلاده إلى الحضيض، حتى خرج عليه شعبه، يوم إطاحة الجيش به، ليس لمناصرته، بل للاحتفال بعزله وانتهاء حقبته الرئاسية، كتعبيرٍ صريح ضد ممارسته وتمسكه بالسلطة حتى آخر رمق، بل السعي لتوريث السلطة لزوجته غريس موغابي التي لقبها شعبها ب"غريس غوتشي" الماركة العالمية، كناية لفسادها وعشقها للترحال والتسوق. أجد نفسي من أنصار التيار الثاني الذي يرى بأنه استحق التكريم يوم خرج من أجل شعبه ضد حكم الأقلية البيضاء العنصرية التي كان تتأثر بحكم البلاد وخيراتها، ولكن بالنظر لتجربته في السلطة، نلاحظ الفرق الشاسع، بين خطابه يوم أعتلى رئاسة الوزراء في معلب روفارو، للفترة الأولى عام 1980، وبين موغابي الرئيس في الحادي عشر من نوفمبر 2017، حينما أُرغم على الاستقالة من منصبه كرئيس للجمهورية، من قبل الجيش بالتحالف مع نائبه السابق إيمرسون منانغاغوا (الرئيس الحالي)، في إطار صراع السلطة بين الأخير وزوجة موغابي غريس. ليتم اسدال الستار على حقبة كاملة في تاريخ زيمبابوي منذ حرب التحرير، مرورًا بالاستقلال، وحتى تاريخ عزله، ووفاته. لذا، فإن قراءة تجربة موغابي يجب ألا ينظر لها في إطار ثنائية التحرير الاستعمار فقط، مثلما يدعو أنصار التيارين النقيضين، بل بما عُرف عنه في ممارسته للسلطة، واستخدامه للعنف في قمع معارضيه، علاوة على اتباعه سياساتٍ خاطئة أدت إلى انهيار اقتصاد بلاده وإفقار شعبه. وبالطبع، لا يمكن أبعاد النظر عن سوء إدارته لقضية ملكية الأراضي، وهي القضية التي أوصل بلاده لهذه المرحلة، بعد أصدره قرارا بمصادرة أراضي البيض من مواطني زيمبابوي عام 2000، وما تلاها من موجة عنفٍ ضد الأقلية البيضاء المستحوذة على الجزء الأكبر من أراضي البلاد، فأدى ذلك كله إلى انهيار علاقة بلاده من الغرب، ومحاولته الشعبوية لتحدي الإمبريالية الغربية. فليس بالخطاب وحده يحيا الشعب الزيمبابوي كما توهم الزعيم الراحل، بل بالعمل الجاد وإزالة المظالم من المواطنين ومحاربة الفساد بالحرية والتداول السلمي للسلطة، كأولوية لبناء بلاده ثم محاربة الأعداء الخارجيين. فما تقدمه هذه التجربة من دروس وعبر، لنا كشعوب وأبناء القارة السمراء، هو باختصار ان أبطال التحرير ليسوا بمنزلة الأنبياء، كما نرى ونسمع ونقرأ في شعاراتهم الثورية وفي كفاحهم الثوري، وهذا القول، بالطبع، لا يقدح فيما قدموه من تضحياتٍ، وإنما يوضح بأن النضال والتضحية يجب أن يتبعه جرأة وعدالة في تحقيق تطلعات الشعوب المقهورة، وليس استقلال هذه الشعوب المستضعفة بحجة إرث التحرير مثلما تشير الحالة الزيمبابوية بوضوح، وكذلك غيرها من الحالات التي ذكرناها في مواضع شتى من كتاباتنا. إذ تدفعنا الحالة الزيمبابوية لإعادة النظر في مسألة إرث تجارب الزعماء وقادة حروب التحرير، ليس لمحاكمتهم بمقاييس عصرنا الحالي، وإنما لوضع النقاط على الحروف كما يقال. فما نتعلمه من إرث موغابي وغيره، والأمثلة كثيرة في هذه الحال، سواء في تجربة آسياس أفورقي من الثورة وحتى الدولة، أو في تجربة سلفاكير من حرب التحرير إلى السلطة والحكم، فسوء إدارة شأن هذه الشعوب كفيل بمسح إرث النضالي لهؤلاء الزعماء. وسبق أن تناولت هذه الظاهرة في مقالٍ، (أنظر جنوب السودان والحلم المؤج: ملاحظات أولوية في الذكرى الثامنة) ما أُصطلح عليه البروفيسور كريستوفر كلافام كتفسيرٍ بهذه الظاهرة "لعنة التحرير" (Liberations Curse). ويرى، بأن حركات التحرر الوطنية الأفريقية، سرعان ما تفشل في تطبيق برامجها المعلنة بعد انتصارها أو وصولها إلى السلطة بتسوية سياسية أو غيرها. ولكننا لا نستخدم هذا المصطلح دون نقد أيضًا، فهناك عوامل أخرى تؤثر في فشل حركات التحرير السابقة، سواء عوامل تتعلق بإرث الاستعمار أو عوامل خارجية كانت ولا زالت هي المحدد الأول لسياسات الدول الضعيفة في النظام الدولي الراهن. ويخضع حكامنا لاشتراطات هذا النظام، بعلاقات القوة والتبعية. ومع ذلك، تظل تجربة حكامنا موضع المساءلة، لبيان نجاحاتها وإخفاقاتها مع التركيز على السؤال الجوهري لأسباب فشل معظم قادة حركات التحرر من تحرير مجتمعاتهم من غول الفقر والاستبداد. وبلا شك سيستمر السجال حول إرث هؤلاء الزعماء، موغابي وغيره، ولكن يبقى السؤال المليون دولار الذي جاء في افتتاحية صحيفة القدس العربي 6 سبتمبر 2019، هو لماذا يتحول أبطال التحرير إلى طغاة؟ ولماذا يزيف هؤلاء كلمات الحرية والتحرير والاستقلال، بحاجة لإجاباتها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.