صحيح أن اكتشاف النفط أوائل القرن الماضي شكل ثورة كبيرة وعصب حركة التقدم الإقتصادي العالمي , وأتى ببشائر الخير للدول وشعوبها التي اكتشف النفط في أراضيها , إلا أنه في الوقت ذاته سبب كوارث وزلازل للعالم بأسره ومنه الدول المنتجة له . وقد حظيت المنطقة العربية بكميات كبيرة منه تجاوزت عشرين بالمائة , فاستبشر أصحابه به خيرا أملا بما ستساهم به عائداته المالية من تقدم ونهضة ورفاهية , وقد أدى ذلك كما هو مؤمل منه , إلا أنه رغم ذلك شكل عامل جذب لكل الطامعين بهذه الثروة , وخاصة الدول الصناعية الكبرى المتقدمة , فسعت إلى خلق الخلافات ونشوب النزاعات بين الدول المنتجة نفسها وبين بعضها وبعض الدول الأخرى , ما أدى إلى جعل العرب يعيشون هاجس الرعب والخوف وعدم الإستقرار بسبب الأخطار التي تحيط بهم من كل جانب , مع انعدام وجود استراتيجية عربية متكاملة تتنبه لتلك الأخطار وكيفية مواجهتها وصون الأمن القومي العربي . في ظل هذه الأجواء بدأت الدول المنتجة للنفط تلجأ إلى جهات أجنبية ليست حليفا موثوقا بها , مثل الولاياتالمتحدة الدولة الأقوى عالميا لتوفير غطاء الحماية لها , خاصة عند اقتراب الأزمات من حدود الهاوية . وقد كان للولايات المتحدة تجربة في هذا الخصوص مع العراق . لكن أزمتها الحالية مع إيران قد تكون أشد قسوة عليها وأكثر خطورة على مصالحها , حتى وإن أرادت تدمير إيران واحتلالها كما فعلت مع العراق وتنصيب قيادة جديدة للبلاد وتأتمر بأوامرها , وهنا مكمن خطورة هذه الخطوة التي قد تؤدي إلى تغيير ملامح المنتطقة بأسرها . الطرفان الأميركي والإيراني يحاولان شيطنة بعضهما بعض , لتجنب حدوث عواقب كبرى , ولحاجتهما كليهما لمثل تلك الشيطنة , فواشنطن تنشط بهذا الإتجاه لجني أرباح وفيرة لها ولحلفائها الصهاينة . فهي تعمل جاهدة لتكريس مناخ عدائي عقائدي مستحكم باستغلال الإختلاف المذهبي بين الجانبين الإيراني والعربي , معتمدة على التصاريح الصادرة عن كبار المسؤولين الإيرانيين الذين أعلنوا سيطرتهم على عدد من العواصم العربية وعدم قدرة تلك العواصم على اتخاذ قرار دون موافقة النظام الإيراني , ثم الإسراف غير المبرر في المصاريف التي تنفق على برنامج التسلح , وهذا الكم الهائل من التسلح يثير شكوك ومخاوف الدول المجاورة وما قد ينتج عن ذلك مستقبلا . هذه الأجواء التي تثيرها واشنطن تهدف إلى أمرين , الأول هو ابتزاز الدول النفطية بدفعها لشراء المزيد من السلاح الأميركي وتكديسه في المخازن مع وضع شروط صارمة على استخدامه , وآخر ما قاله الرئيس ترامب في لقائه المتلفز بحضور ولي عهد البحرين حيث توجه إلى ضيفه في البيت الأبيض قائلا : أموالكم كثيرة عليكم . أما الهدف الثاني لواشنطن , هو دفع الدول العربية للمصالحة مع الكيان الصهيوني والإعتراف به وإقامة علاقات طبيعية معه لمواجهة النشاط الإيراني المعادي في المنطقة وتمرير صفقة القرن , التي سيعلن ترامب قريبا عن بنودها , وهذا إن تم سيؤدي إلى زلزال كارثي آخر يعيد رسم خرائط المنطقة . أما الشيطان الآخر الإيراني فيعمل على وترين الأول هو القوة التي يمتلكها ويلوح بها في وجه دول الخليج ويجعلها تعيش تحت وطأة هلع دائم , والثاني هو دغدغة مشاعر العرب برفع شعارات معادية لأميركا والكيان الصهيوني ( الموت لأميركا , الموت لأسرائيل ) دون أن يقدم شهيدا واحدا حتى هذه اللحظة على أرض فلسطين , أويساهم بمقاوم واحد , هذه الورقة حاول النظام الإيراني استغلالها إلى أبعد الحدود , بعد أن تخلى النظام العربي الرسمي عن شعار مركزية القضية الفلسطينية , وأصبح يميل إلى التخلي عنها بالإعتماد على مقولة القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني وحده , والعرب مؤيدون وداعمون لما يراه الفلسطينيون . فبعد احتلال العراق وسقوط نظامه الداعم الأساسي للشعب الفلسطيني , خلت الساحة للإيرانيين ليظهروا مظهر الداعم الوحيد لأصحاب الحقوق المشروعة , وبهذا الإدعاء وبهذه الوسيلة تستطيع إيران أن تأسر قلوب العرب لما للقضية الفلسطينية من قدسية في قلوبهم . إثر الإعتداء الذي تعرضت له شركة أرامكو السعودية وجه ترامب اللوم على إيران متهما إياها بالقيام بهذا العمل ومستبعدا فعل الحوثيين , وهكذا يكون ترامب قد ورط نفسه في مواجهة إيران , وملوحا بكل الأوراق كما يدعي مع استبعاد الحل العسكري , وهذا الموقف استجد بعد حسابات دقيقة لمستشاريه , ونتائج الإنتخابات الرئاسية القادمة , وعدم الرغبة في خوض حرب سيخسر فيها الكثير من الأرواح والمعدات والمال إلى جانب آخر لا يستطيع الدفاع عن نفسه و في الوقت الذي لم تعد فيه واشنطن بحاجة إلى استيراد النفط ولديها ما يكفيها بعد أن أصبحت أكبر منج للنفط في العالم . لكن مزاج اللعب بالنار قد يزيدها احتراقا لكنه يبقى مسيطرا عليه . فقد وصلت إيران إلى قناعة أنها إذا وصلت حد الإختناق بسبب إدامة العقوبات وتشديدها فستسعى إلى مزيد من إشعال الحرائق المؤذية ضد دول الجوار التي تشارك الولاياتالمتحدة في مخططاتها , دون أن تخشى ردة فعل واشنطن التي لن تسعى إلى حرب شاملة ضدها , ولهذا لن تتردد في تعطيل حركة الإقتصاد السعودي والإماراتي كما حصل لشركة أرامكو , كما توحي للعالم ولرجال الأعمال بعدم المساهمة في المشاريع الإنمائية والإستثمارية , ما قد يؤدي إلى وقف عجلة الإقتصاد لتلك الدول , ويصبح العرب وحدهم هم الخاسرون .