عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) ونعلم يقينا أن هذا العنوان يحوي قَولاً غَليظاً في شأنِ دولةٍ جارة تربطنا بشعبها كثيرٌ من الأواصِرْ بالرغم من التاريخ الشقيِّ لهذا الجوار .. لا ننوي من وراءِ هذا المقال الذي يُنشَرُ مُنجَّماً، أن ننالَ من شعبِ مصر بقدر ما نُصوِّبُ النقد إلى صفوته الحاكمة بتصوراتها الفاسدة وإِختِياراتِها التي تجافي المنطِقَ والحِسِّ السليمْ.. فكما سنرى، أن هذه الصفوة الذَّاهِلة قد أَسْرَفتْ في تقصيرها عن أداء ما يليها تجاه شعبها في وقتٍ تُحمِّل فيه الآخرِين، حشفاً وسوءَ كيلَة، عِبءَ إِعالتِهِ وضمان رَيِّهِ! (2) قُلْ إنَّها صدفةُ الجغرافيا، تلك التي جعلت من جِوارِنا لمصرَ جواراً مُشَاكِساً تعِساً في أغلب فُصُولِ تاريخه الحديث من لدن الغزو التوسعي لحاكم مصر الألباني محمد علي في 1821 والى يوم الناس هذا... تشاكسٌ ما انفك عنوانه المائز: نزعات السيطرة والإِستِتباع وأوهام التملُّك!!.. فإِستقلالِ السودان الذي بدَّدَ الاحلام الكلونيالية للنخبة المصرية بِضَمِّهِ تحت مسمى الشعار المخاتل "وحدة وادي النيل"، قد جعل هذه النخب تتبنى نسخةً مُنقَّحةً من نمطٍ للتفكير أصبحت وفقها لا ترى في السودان المستقل سوى كونه حديقةً خلفية لها ودولةٌ تابعة يُتوَقَّعُ منها السهر على المصالح المصرية والخضوع المطلق لمشيئة حُكَّام القاهرة.... نزعة ضم السودلن وإلحاقه لم تقتصر على العقل الجمعي للمصرييين فحسب، بل تماهت معها وإِعْتقدتْ في "قداستِها" - للغرابة وللأسف - شرائحٌ فقيرة الخيال ومدقعة الهِمَّة من نُخَبِنا السودانية الخائبة التي جسَّدت - "كأروعِ" ما يكون - مقولات الوعي والوعي الزائف ونظريات الإِستِلابْ في تماهيها مع المساعي الكلونيالية المصرية.. الإستثناء النادر في سياقِ هذا التماهي كان موقف حكومة عبد الله خليل التي خالفت التوَقُّعْ حين لوَّحَتْ بالحرب في وجه جمال عبد الناصر إبَّانَ نزاع الحدود السوداني المصري على مثلث حلايب ونتوء وادي حلفا في 1958 ... (3) لم يكُ غريباً أن تكون مصر في طليعة الدول التي بادرت بالإِعترافِ بإنقلابِ البشير المشؤوم في الثلاثين من يونيو 1989، حِينَها شرع الرئيس المصري الأسبق مبارك - في ظهِيرةِ نفس يوم سطو الإِسلامويين على السلطة - في تسويق الانقلاب لدول الخليج والعالم شارِباً مقلب " دُولْ وِلادْنا" من اجهزة مخابراتهِ الفاشِلة.. ما كان غريبٌ أيضاً أن تُبدِي مصر الرسمية إِنزعاجِها من إِندلاعِ ثورة ديسمبر 2018 المجيدة التي نجحت في الإطاحة بنظام البشير وما كان غريبٌ عليها أن تستميت وتبذل أقصى ما في وُسعِها لإِجهاض التغيير في السودان عبر دعمِها ورعايتها اللَّصيقة للمجلس العسكري في الفترة التي سبقت تشكيل هياكل السُلطة الإنتقالية.. ذلك غيضٌ من فيضِ وقائعٍ جمَّة أغضبت السودانيين وما تزال، إلا إنّ هذه المواقِف في حقيقتِها كانت مُتّسِقةً مع التقديرات النفعية المستديمة للأنظمة المصرية التي ترى ان تغييب الإرادةِ الحرة للسودانيين يُسَهِّلُ كثيراً على حكام القاهرة تمرير أيَّةُ إِشتراطاتٍ على السودان - المحكوم أوتُوقراطيَّاً - تكون مُحصِّلتها تعظيمُ المصالح المصرية، حتى وإِنْ تناقضت مع المصالحِ الحيوية للسودان ... الشاهد ان النظام البائد، ومن فرطِ عُزْلَتِهِ "المجيدة" وهوانهِ على الناس، كان سَلِيبُ الإرادةِ، يبتزَّهُ المصريون - الذين أَتقنُوا معه لعبة لَيَّ الذراع - أَنَّى شاؤوا.. (توخيا لِلإِنصَاف - كانت التقديرات المستقلة للسودان في قضية سد النهضة إِستِثناءً نادِراً في هذا السياق بالرغم من العجز التام لنظام البشير عن الإستثمار في هذا الموقف إِستراتيجياً إزاء كل من مصر وإثيوبيا، وهذا ما سنعود إليه لاحقا في مقالٍ منفصل).. (4) الآن، وبعد إنتصارِ التغيير وتشكيل د. حمدوك لحكومةِ الثورة، فقد آن لنا أن نسلط الضوء على شؤون طالما أجَّلنا إثارتها لينصرف الجهد وقتها الى حسم معركة إِسترجاعِ الوطن والسلطة من بين براثنِ طغمة كليبتوقراط المؤتمر الوطني.. لا ريب ان من ضمن هذه الملفات ذات الأهمية الوطنية القصوى: قضايا الحدود، الموارد الاستراتيجية، العلاقات مع دول الجوار والمصالح العابرة للحدود التي فَرَّطَ فيها النظام المندحر أيُّما تفريط.. يطمعُ الكاتب من خلال اثارته لهذه المسائل تباعاً في إغراءِ المهتمين بالتمعن فيها ومناقشتها بعمق وصولاً الى بلورة رؤى وطنية يستهدي بها المفاوض السوداني ويستعين بها صانع القرار حين تُطرحُ قريبا على الطاولة، ولِحسنِ الحظ إن متّخذَ القرار فيما يلي موضوعُ هذه الحلقات هو صديقنا الدكتور ياسر عباس، وزير الرَّي، الذي نعرف وطنيَّتهِ الصادقة وتأهيلهِ الرفيع في جامعة دِلفت الهولندية.. (غنيٌ عن القول إنّ هنالك بالطبع ثمة أفكار من الضروري تدارسها في دوائر مغلقة، لان إستعراضها عَلناً قد يؤدي الى الإضرار بالموقف التفاوضي للسودان).. (5) ملف المياه - ظاهِراً أو مُستتِراً - هو الأهم بإمتياز في علاقات مصر بالسودان.. تاريخياً ، لم يتعامل حكام مصر مع السودان كمُحتلِّينَ عابرين، بل كَمُلَّاكٍ لضيعةٍ ينهبون مواردها ويهبون أراضيها كيفما اتفق.. فالخديوي عباس حلمي لم يتورع عن "التنازل" لملك الحبشة منليك الثاني عن إقليم بني شنقول السوداني، في مقابل تَعهُّدْ الحبشة بعدم إنشاء خزانات على النيل الأزرق!!!!.. تلك المقايضة تضمنتها اتفاقية أديس أبابا الموقعة في 15 مايو 1902 التي أَفقدتْ السودان، وربما إلى الأبد، اقليماً كاملاً بسكانه واراضيه نظير "ضمان" أحتمال ان لا تعطش "الشقيقة"!!!! نجد أنفسنا مضطرين لأخذِ الصفوة المصرية - المُتنفِّذة والمُفكِّرة - بالشِدَّة لأنها تعاني من خللٍ مزمن في التفكير وضلالِ التدبير عند إِقبالِها على ملف المياه .. منشأُ هذا الضلال يعود في تقديرنا، إلى صلفِ هذه الصفوة وتبنيها لعقيدةٍ فاسدة فحواها أن مياه النيل " حقٌ خالصٌ لمصر، لا شريك لها"، تتصرف فيها كما تشاء: منعاً بلُؤمْ أو منحاً على مضض!!.. دونكم اتفاقية مياه النيل (1929) التي لم "تتفضل" فيها مصر - بعد تَمنُّعٍ - على السودان إلا بسحب 4 كيلومتر³ (او 4 مليار متر³) كحد أقصى للري والشرب في مقابل نصيبها الذي حدّدتهُ ب 48 ملياراً، كما أن الاتفاقية قيَّدت سحب السودان للمياه بأن يكون حصراً بين يوليو وديسمبر من كل عام واشترطت أن تبني مصر خزان جبل اولياء وتديره لصالحها بجيش من موظفي الري (معظمهم في حقيقة الأمر من سلك المخابرات)!! .. ودونكم أيضا اتفاقية 1959 التي لم تنصف السودان كثيراً.. فهي، وأن ارتفعت بنصيبه إلى 18,5 كيلومتر³ من المياه، إلا أنها - ومن ضمن مآخِذَ أخرى كثيرة - حَمَّلتهُ، للغرابة، عبء تقاسم فاقد التبخر المهول من مياه بحيرة السد العالى (10 كيلومتر³ سنوياً) رغم أن مشروع السد مصريٌّ بالكامل!! على أن إنفراد مصر بنصيبِ الأسد من مياه النيل لأكثر من قرن (على الاقل منذ اتفاقية أديس أبابا 1902) كان لابد له أن ينتهي، رغم صعوبة الفطام، فالثقل الجيوسياسي لمصر ونفوذها الإقليمي شهِدَ ويشهد تراجعاً مطرداً في الوقت الذي تتزايد فيه احتياجات المياه للدول الشريكة في حوض النيل، فهذه الدول ترى أن الاتفاقيات السابقة لقسمة المياه قد عفا عليها الزمن ولا تعنيها.. Obsolete (6) ما نحن بصدده الآن هو مقاربة قضية المياه عند الجانب المصري من زاوية تحليل الطلب في لغة الاقتصاديين، لنرى مدى إِتِّساقِ مطالبات المصريين مع المنطق والواقعية المطلوبة على هُدَى مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول للمياه ومن ثم سندلف إلى خلاصات نتمنى أن تتعامل معها القاهرة - شعباً وصُنَّاعَ قرار - بعقلانيَّة وبِلا تشنُّجْ.. خذوها منا يا جيراننا في الشمال، فجيلنا مختلفٌ عَمَّنْ خبرتموهم من ساستِنا الذين قال أحدُهم، فُضَّ فُوه "من أجل مصر سأقبلُ أن أتنازل عن رئاستي للحكومة و أصيرُ قُنصُلاً في أسوان"!!.. لقد إنطوى عهدٌ وولَّى زمان يُطلَبُ فيه منا كسودانيين ان نقف حُرَّاساً للمصالح المصرية على حساب مصالحنا الوطنية.. الحساب ولد، أو كما قِيل.. لنا موعد في الحلقة القادمة هوامش: للمزيد عن اتفاقيتي مياه النيل راجع: 1. فيصل عبد الرحمن علي طه. مياه النيل: السياق التاريخي والقانوني (مركز عبد الكريم ميرغني، 2005) 2. أحمد عبد المجيد الحاج، القواعد الدولية التي تحكم توزيع مياه الانهار: تعليق على نهر النيل (رسالة ماجستير، جامعة الخرطوم، بدون تاريخ)