حياتُنا تتماثل بل وتتطابق مع الطائرات ومحطات المطارات التي تجثو عليها، تحليقاً وهبوطاً وانتظاراً وسقوطا .. فنحنُ مابين تحضيرٍ وانتظارٍ لذهاب، أو تجهيزٍ ومكوثٍ بغرض الإياب، وربما يشمل ذياك التماثل ذات المحطات الواجب عبورها نحو الجهة النهائية . نُوُلدُ لكي نسافر عبر سنوات الحياة إلي مواقعٍ شتىَّ.. ندرس ونتعلم حتى نهاجر الي مستقبل العمل.. نتعجل إنجاز المِهام والواجبات، حتى نعود منها لاستقبال وحمل غيرها.. نلتقي بأُناسٍ لنفارقهم نحو غيرهم . التوقف عند محطةٍ أو محطات معينة قبل الوصول إلي نقطة النهاية؛ أمرٌ تفرضه الضرورات وخارطة المسار.. نعرف في دواخلنا أن ثمةَ علاقاتٍ وأشخاصٍ ومواقف لابد من العبور خلالها، والتزود فيها ومنها بما هو لازم لمواصلة الرحلة أو لإصلاح الأعطاب ولأغراض التجديد . تبقى في الذاكرة، ويرسخ في الفؤاد والوجدان محطةٌ ما، تلك المحطة تنطبع في المخيلة، لاتفارقها، مهما تعددت السفريات وتمددت الأعمار. خلال الرحلة تمارس معنا الحياة وبعض الشخوص مهام مسؤولي الجمارك.. يأخذون منا جبراً بعض لوازمنا ومقتنياتنا بحجة خطورتها وعدم المواءمة. كذلك الحياة، تنتزع من طريقك ماتراه هي غير متسقٍ معها، لا معك . نضطر كذلك أحياناً للخضوع إلي اختيارات محددة، تفرضها الظروف، تماماً كخطوط الطيران التي نُرغم عليها وليس تفضيلاً ، إما بسبب تكلفتها المالية الأقل، أو لإعتبارات تتعلق بمواقيت الذهاب والأوبة التي نرتأيها . السودانيون عرفوا أن الحياةَ تسفارٌ، بعضه يجلب البهجة وآخر يورث الغم والهم.. فغنوه نواحاً للفراق : "تسافر كيف تخلينا" .. "سافر، مطارات الوداع ضجت قدامك وراك".. "سفري السبب لي أذايا" .. "رحلت وجيت، في بعدك لقيت كل الأرض منفى" .. "في عز الليل أنا مسافر" .. "قلنا ماممكن تسافر". ومن تبتّلوا وذابوا وجداً لحظات الإياب.. "عاد الحبيب فعادت إليَّ احلى الليالي" .." مرحباً يا شوق".." رجعنالك". بعض الظروف والقرارات قد تجعلنا نمكث عند أمكنةٍ أو برفقة أناس قسراً لا طواعيةً، تماماً كالمسافر الذي يخطئ في ميعاد السفر أو يأتي متأخراً للمطار ، فيضطر للمكوث في أقرب فندق من تلك المحطة، انتظاراً للسفرية القادمة. السفر مهما كانت وسيلته هو مشقة، وكذلك الإنسان، خُلق في كَبدٍ مستمر، يكابد لكي ينجح، ويشقى في سبيل الحفاظ على مكاسبه، ويعاني للانعتاق مما يسيئه. يتعرض الإنسان لما تتعرض له الطائرات من مطباتٍ، ويشتركون في ذات المصير. تصمد الطائرات إن كانت تتسم بالمتانة وجودة التجهيز وتواجد فيها ملَاحٌ حذقٍ متمكن ، وتسقط متحطمة إن عاندت الطبيعة ولم تماشيها. بذات القدر، تعترض الإنسان العاديات، إن تعامل معها بشفرتها نجى، وإن استشكلت عليه؛ يخبأ له شهابٌ ويتسيد الكدرُ لياليه. في المطارات وداخل الطائرات، تلمح بعض نظرائك المسافرين..من نظرة عينٍ تتمنى لو أن مقعدك مجاورٌ لهم كيما تستمتع بالتعرف إليهم.. و بعضهم تدعوا السماء ألا تستدنيهم ناحيتك. قد تندم على من توسمت خيراً في مجاورته، وقد يعتريك كدرٌ أيضاً من سوء الظن بمن توهمت فيه سخفاً، فإذا هو خيرُ سميرٍ. ذات الأمر ينطبق على رحلتك الحياتية. تلويحات الأكُف والمناديل انعدمت لها شاعرية، و استبدلها الناس ببارد رموز تلويحات، صنيعة الواتس اب والفيسبوك (قاتلهما الله).. وحدها الرسائل الصوتية ما تنبض فيها الحياة وتبعث في الجسد رعشةً وتثير في الحِس لواعجاً. حفظ الله الرسائلَ الصوتية وأبقاها في مخزون الذواكر الرقمية، وجنبها الإزالة الجماعية لحظة سأمٍ Delete all، والتي ترقى في بعضها إلى جريمة الإبادة الجماعية، وفي قِلةٍ (جريمة ضد الإنسانية) . قد تعرف شخصاً من الشرق وآخر من الغرب، ليس بينهما أية علائقٍ أو وشائج، ولم يسبق لهما أن اجتمعا عندك ولن. رغم ذلك تلحظ ملامحهما المشتركة، وذات نبرة الصوت، وربما الطبائع نفسها، فتقلب كفيك عجباً لتهتف : يا الله! . قد تستغل طائرة إلي روما وثانية إلي إثيوبيا وثالثة الي الأمارات.. الطائرات هي نفسها، وإن تباينت الفخامة، و مكونات الطعام بداخلها تتطابق، وإن اختلفت النكهة.. تتعدد الوجهات.. والنظر واللسان والوجدان واحد، والروحُ لها مستقرٌ، يفتقر للعنوان. القلب لايعدو كونه مضخّة... وحدها الأرواح والعقول تتوطن فيها الإنسانية والفكر ونبيل ولئيم المشاعر.. الروحُ تسافر ذات منام، والعقلُ لا يتخير سوى اليقظة وسيلةً للترحال، ومُوجِّهاً ودليلاً مرشدا. الروح يتكرر هبوطها الاضطراري، فهي سليبة الإرادة ، والعقل جوّال نزِق، يهوى التعدد، ويأتمر بأمر ملّاحِ العين، و كثيرا ما يستسلم لملاحه الآلي Automatic Pilot. أما القلب فمكمنه القفص الصدري، سجيناً مؤبداً، يمارس عقوبة الأشغال الشاقة، التي قررتها عليه محكمة الدورة الدموية. كتب محمود درويش : " قال المسافر في القصيدة للمسافر في القصيدة: - كم تبقَّى من طريقك؟ - كُلٌّهُ. - فاذهبْ إذاً، واذهب كأنك قد وصلتَ ولم تصل. " محمود،،،،، عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.