أجد نفسي، كعضو خامل في هيئة علماء السودان، متفقاً مع البروف عثمان محمد صالح، رئيس الهيئة، بأن تتبع الهيئة لرئاسة الوزراء قرار جانبه التوفيق. فالهيئة جسم أهلي مثله مثل اتحاد الكتاب أو التشكيليين السودانيين، أو ينبغي أن يكون. وعليه فالحاقه بالرئاسة في عهد المخلوع تشويه دميم للهيئة أراد به وضعهم تحت الخدمة. ولو قبلوا به، ونالوا من سقطه كما تواتر في اليومين الأخيرين، أوغلوا في فاحشة خيانة أمانة العلم. ولا أعرف صحة احتجاج بروف عثمان على ضمهم لمجمع الفقه بعد فك ارتباطهم بالرئاسة. فإن صدق دمج الهيئة مع مجمع الفقه في قرار رئيس الوزراء الأخير نكون قد زدنا الطين بلة. فالمجمع مشكلة قائمة بذاتها. فحتى الدكتور الترابي لم يكن يرى سبباً لقيامه. فقد خشي أن يكون مرفقاً لبيروقراطية مشيخية تتحكم في الفتوى فيما يصح من الحداثة وما لا يصح. وكان من رأيه أن الحداثة ابتلاء للعلم الدنيوي والديني معاً ولن نصيب نجاحاً فيه متى احتكرته المشيخية دون سائر المعارف الأخرى. وقد عرضتُ مراراً لمسألة المشيخية في كتاباتي وقلت إن الترابي عارض قيامها بشدة ولم تنشأ إلا بعد نزعه عن السلطان بعد مفاصلة الإسلاميين في 1999. متى الحقنا هيئة علماء السودان بالمجمع جزافاً نكون قد طبزنا عيننا قبل أن نتفاكر حول ما سيؤول إليه المجمع نفسه . الرأي عندي أن نحرر جسد الدولة من هيئة علماء السودان بالكلية. وتعود جماعة مهنية تحكمها قوانين المنظمات الأهلية كما تحكم كل منظمة مثيلة. فاذهبوا فأنتم الطلقاء
وأنشر أدناه كلمة خاطبت بها هيئة علماء السودان في نحو عام 1914 من موقعي كعضو بها. رسالة إلى مشائخنا في هيئة علماء السودان عبد الله علي إبراهيم
الأعزاء مشائخنا وزملاءنا في هيئة علماء السودان لو صح تقويمي فإن يوم الأحد (27 إبريل المنصرم) هو يوم انعقاد جمعيتكم العمومية. ورأيت بهذه الكلمة لكم تجديد عضويتي بالهيئة التي سعيت لها في اجتماع خلا بجامع الشهيد. ولم أثابر عليها وإن تعرفت على الشيخ عثمان محمد صالح والشيخ الياقوت والشيخ عصام البشير وود الدانقة المعلم ولمست فيهم دماثة وتواضعاً علمياً حببهم إليّ. ومتى تدارسنا شاغل الوطن معاً كانت شفقتنا به عهداً مسؤولا. أكتب لكم مهجساً بزعم بعضنا الترويج لدستور إسلامي على فرضية أن انفصال الجنوب سانحة للصفاء العقدي. وأبادر فأقول إننا في اليسار لم نتكدر من مثل هذه الدعوة أبداً. فقد التمس أستاذنا عبد الخالق محجوب باكراً في 1957 من جبهة الدستور الإسلامي ألا نجعل وصفة الدستور أكثر همنا. وزاد بقوله إن أردتموه إسلامياً قولوا لنا ما ستكون مقاصده في الإمبريالية والعدالة الاجتماعية والحرية التي هي من ابتلاءات العصر في مصطلح الشيخ الترابي. وأضاف أن باكستان أيوب خان يومها كانت دولة إسلامية ولكنها ضلعت مع دول الاستكبار الغربي. وعاد أستاذنا في 1968 ليقول إن الإسلام أشرق في الجزائر بمعاني السيادة الوطنية والتحرر والعدالة متجمراً في منعطفات حربها المعروفة للفرنسيين. ما أزعجني في الدعوة للدستور الإسلامي القائمة أن أعظم أسبابها ما يزال هو حرب العلمانيين. فهي ردة فعل لا فعلاً وتربصاً لا عزيمة. فصاروا إلى "فجر العلمانية الكاذب" وصرنا إلى "فجر الشريعة الصادق". وهذا تنابذ بالدساتير وعاقبته كأداء يتسع به فتق الأمة. ولنا في مصر النذر. فثورتها النبيلة تتخبط على ضفتي الفتق وتتخطفها ثنائية العلمانية والدينية كأن ليس بين القطبين طريقاً وسطاً ولا بيننا رشيد. وكتبت في مؤلفي "الشريعة والحداثة" أننا في اليسار لا نجد عسراً في قبول خطة الترابي في أن تكون الشريعة مصدراً من مصادر التشريع (مع مصادر أخرى) طالما تنزلت تشريعاً من جهة نيابية منتخبة لا صراخاً من أعلى البيوت كما فعل بنا نميري بسبتمبرياته صنيعة ليل ل"رجلين وامرأة" في قول منصور خالد. بالطبع الدعوة لتحكيم الإسلام فينا تبعة للمسلم في كل زمان ومكان وبخاصة عباد الله العلماء. ولكن الدين فطانة. كانت الدعوة للدستور الإسلامي في الستينات طازجة وساغ منطقها بأنها استكمال لمعركتنا لإزالة آثار الاستعمار. ولكن ها نحن نعود إليها بعد نصف قرن تقريباً وقد مرت تطبيقات مختلفة لها تحت القنطرة. وربما عَصَرنا الأسف أنها لم تسعد الناس الذين تراكضت أشواقهم لتجديد عصر أفضل خلق الله والراشدين. ومن عزم الأمور أن نعقل هذه التجربة غير السعيدة للتطبيقات الحالية ثم نتوكل لا أن نصرف عنها النظر كما لو أنها لم تكن لنجرب من لوح ممسوح. وأود أن يكون هذا العقل والتوكل لخبرة تطبيق الشرع عندنا موضوع ندوة بيننا علماء الأمة من كل تخصص وحدب عبادة منا في هرج الاستقطاب والثنائيات التي انقضى زمانها. قوموا إلى مؤتمركم يرحمكم الله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.