عندما عدت إلى منزلي، بدأت بكتابة رسالة إلى احد أولئك الإخوة، إلى مجهول من هؤلاء الرقيق، اسرد له فيها ما جرى لإخوته من البشر في الخمسة آلاف سنة التي انقضت على غيابه عن الأرض، في هذه الفترة الطويلة.. لم يكن هو موجودا، ولكن الرق والرقيق كانوا موجودين باستمرار بأشكال وصور مختلفة على مر المراحل. قلت في رسالتي: 2-دفن في صخور المقابر: لقد رحلت عنا، ونحن لم نزل نبني الحضارات العريقة ونعد العدة من أجل فتوحات ومآثر جديدة. كانوا يأتون إلى قرانا وضياعنا فيجروننا وراءهم كالبهائم إلى حيث نصنع قبورهم، وعندما كنا ننتهي من بناء الصرح كان المجد لهم وحدهم، أما نحن.. فعندما كانت تخور قوانا، بعد ذلك الجهد الجهيد كنا ندفن هناك بين صخور المقبرة . 3-حرب الوكالة كانوا يسوقوننا أحيانا إلى الحرب، لحرب أناس لم نعرفهم ولم نكرههم من قبل، بل وربما لحرب أناس من مواطنينا ورفاقنا وأقرب الناس إلينا، كنا نحن نساق للحرب، بينما ينتظر آباؤنا وأمهاتنا المسنون عودتنا بفارغ الصبر، انتظارا من دون جدوى ولا نتيجة. هذه الحروب - على حد قول احد المفكرين - كانت حربا بين فريقين، لا يعرف احدهما الآخر، لحساب فريقين يعرف احدهما الآخر، ولكنهما لا يتقاتلان بأنفسهما, كنا نبيد بعضنا بعضا، إذا كنا مضطرين أما لنفتل ونقييم المذابح للآخرين، أو نواجه الهزيمة، وعند الهزائم كان الخراب والمدن المهدمة والمزارع المحروقة الجرداء تبقى لنا ولآبائنا وأمهاتنا. أما عند النصر، فقد كان المجد والعز يسجلان لغيرنا. 4-هزيمة النصر: هكذا كنا نحن أدوات فقط.. مهزومين في النصر كما في الهزيمة، لكن يا أخي حدث بعدك تحول كبير فقد بدأ الفراعنة والقياصرة وطواغيت العالم يتغيرون في تفكيرهم، فتركوا عقائدهم عن الموت وبناء القبور كي تبقى الأرواح فيها حية، وقد فرحنا لذلك التحول كثيرا، إذ لاحت لنا نهاية المسيرات المرهقة والمهلكة التي جلبنا بها ملايين الأحجار من مسافة ألف كيلومتر، ورصفناها على بعض كي نصنع قبرا خالدا . 5-من القصور الى القبور: لكن الفرحة لم تعمر طويلا، فقد أغاروا على قرانا وضياعنا مرة أخرى، وساقونا عبيدا ليحملونا الصخور مرة أخرى، لا لبناء القبور وإنما لبناء قصورهم وأسوارهم، تلك القصور والأسوار التي قامت بدمائنا وعلى أشلائنا. غرقنا مرة أخرى في لجة اليأس، وكدنا نفقد آخر بصيص من نور الأمل، إلى أن جاء بشير الخلاص، عندما بدأت نهضة الأنبياء العظام، زرادشت، ماني، بوذا، كنفوشيوس الحكيم، لاوتسو.. فقد كانوا أملنا في الخلاص من العبودية والهوان والظلم، 6-ضحايا القبور وفداء القصور: وقد اعتقدنا ان الله بعث هؤلاء رسلا من اجل إنقاذنا نحن المحرومين والمستضعفين، ومن اجل إحلال الحق والعبادة محل الظلم والرق لكن هؤلاء الرسل قصدوا القصور من دون أن يمروا بنا ويأبهوا لما نحن فيه لقد ذهبت أنت يا أخي ضحية بناء قبور الفراعنة، بينما جعلت أنا فداء لقصور الحكام وقلاعهم الشاهقة. ووجدت نفسي مكبلا بقيود خلفاء فرعون وقارون الذين استرقونا وسخرونا لخدمتهم. لقد شكل هؤلاء الخلفاء طبقة رجال الدين الرسميين (الكهنة)، التي أصبحت طبقة فوقية متنفذة ومستكبرة، وقد كتب علي أن اخدم هؤلاء وابني لهم القصور والمعابد الفخمة، في إيران وفلسطين ومصر والصين، وفي كل مكان يوجد فيه محروم مغلوب على أمره ومستعبد. 7-ممثلون عن الله: إن هؤلاء القيمين الرسميين على الدين الذين ادعوا تمثيل الله وخلافة أنبيائه نهبونا الزكاة وساقونا للقتال باسم الجهاد، بل إنهم أجبرونا على تقديم فلذات أكبادنا على مذبح الأصنام قربانا للآلهة، حتى أصبحت المعابد تسقى باستمرار من دماء أبنائنا وبناتنا الأبرياء لقد أصبحنا نعاني أسوء أنواع الاستغلال باسم الآلهة،وذلك على أيدي فرعون وقارون وخلفائهما والقيمين الرسميين على دينهما.لقد اغتصب مؤيدو الأهواز (كهنة المجوس) ثلاثة أخماس أراضينا، وجعلونا أشباه عبيد. كذلك فعل كهنة المسيحية، حيث استولوا باسم الكنيسة على أموال وأراضي الناس في آلاف السنين، بنينا المعابد والقصور في روما والتماثيل الضخمة في الصين، 8-تبرير العبودية: كنا نحن نهلك بصمت أما المجد فكان يبقى نصيب الكهنة والقساوسة والمقيمين والمتاجرين به، وارثي قارون وفرعون. أنا الذي عشت بعدك بالآلف السنين، وتتبعت ما جرى في هذه السنين، وصلت إلى نتيجة هي إن الآلهة أيضا تكره العبيد وان هذه الأديان ما هي إلا قيود جديدة أرسلت ألينا وان الكهنة والقائمين على أمر الدين إنما استخدموا تلك القيود لاسترقاقنا ولتبرير سيطرة أصحاب القصور ثم عرف عالمنا فلاسفة وحكماء، كان فهمهم عميقا وعلمهم غزيرا، ولكن حتى هؤلاء لم يجدونا نفعا، فأرسطو مثلا، اعتقد بأن من الناس من ولد ليكون عبدا، ومنهم من ولد نبيلا وسيدا، لذلك رأى من الطبيعي أن نبقى في الطبقة الدنيا من المجتمع نُسام العناء ونعامل بالسوط، فلذلك كان قدرنا حسب رأي أولئك الفلاسفة 9-مبعث نبي الرحمة:. لكن العالم شهد مفاجأة جديدة،عندما ظهر نبي جديد، وقد نزل من الجبل متجها للناس، قائلا لهم (إني رسول الله إليكم جميعا). كتمت أنفاسي وأنا بين الدهشة والشك، فلعل في الأمر خدعة جديدة لكنه استمر في الكلام (إني بعثت من قبل الله القائل: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). عجبا، كيف يحدث الله العبيد والمستضعفين فيبشرهم بالنجاة ويجعلهم وارثي الأرض وسادة العالم، كدت لا اصدق، إذ اعتقدته كأنبياء آخرين، جاءونا من إيران والهند والصين، أو ربما كان أميرا ادعى النبوة، كي يعب الناس ضد أمير آخر، فيبلغ مناله من خلال الدين. 10-رعاية الغنم توجت برعاية الامم: قالوا: لا.. انه يتيم، شاهده الناس جميعا وهو يرعى الغنم في سفح الجبل فتعجبت أكثر: كيف يصطفي الله رسولا بين الرعاة.فقالوا لي بل انه آخر واحد من سلسلة الانبياء - الرعاة -، وقد كان اجداده الانبياء أيضاً هم من الرعاة والفقراء، فارتجفت اوصالي، وشعرت برعشة امتزج فيها الارتباك والخوف والرجاء.. فهذا نبي يبعث منا وفينا، وزال ترددي عندما رأيت حولي اخواني من الفقراء والعبيد: بلال.. ذلك العبد الحبشي.. سلمان.. أسير حرب ايران ثم مستعبد، أبو ذر.. إعرابي معدم من الصحراء.. سالم.. مولى زوجة أبي حذيفة وآخرون غيرهم هم من العبيد والفقراء، التفوا حول النبي ثم أصبحوا سادة قومهم. آمنت بذلك النبي، لان (قصره) كان بضع غرف من الطين بناها، بعد إلحاح الناس وقد ساهم هو في بنائها، و(بلاطه) كان خشبة ثبتت على سعف النخيل، هكذا كان كل متاعه في الدنيا.. وقد رحل عنها وهو لا يملك أكثر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.