كنت قد توقفت في هذه الأحاديث عن تنائي ثوار الجبل (حركات الهامش المسلحة) عن ثوار السهل (الثورات المدنية السلمية) عند انتخابات 1965. وفيها تعاقد حزب سانو بقيادة وليم دينق مع حزبي الأمة والوطني الاتحادي لقيام تلك الانتخابات في وجه معارضة القوى اليسارية والديمقراطية. وسببها على معارضتها أنها ستكون جزئية لاستحالة إجراء الانتخابات في الجنوب الذي صار ساحة حرب بفعل تصاعد نشاط حركة أنيانيا (الحشرة السامة) المسلح فيه. كانت الانتخابات عظمة نزاع بين جبهة الهيئات، التي قادت الثورة وغلب الشيوعيون فيها، وبين جبهة الأحزاب المكونة من حزب الأمة والوطني الاتحادي، والإخوان المسلمين. وكان ميثاق الثورة قد قطع بإجرائها في أبريل 1965. ولكن جبهة الهيئات كانت جانحة إلى تأجيلها لترتب البيت السياسي طالما وجدت هواها. فلها الغلبة في الحكومة وفي الشارع. وهبت ريح السياسة لصالح التأجيل. فعرض محمد يوسف مضوي، رئيس لجنة الانتخابات، في لقاء مع سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء، موقف التسجيل للاقتراع في سائر السودان. فكان التسجيل في أحسن حالاته 62 في المائة في الشمال في حين لم يزد عن 18 في المائة في أخرى. أما في الجنوب فقد كان ضعيفاً جداً. فلم يتم التسجيل في 33 دائرة بينما كان ضعيفاً في 27 دائرة وقرر مجلس الوزراء على ضوء هذه البيانات صعوبة إجراء الانتخابات في كل السودان في الموعد المضروب في ابريل 1965 (23 مارس 1965 الراي العام). ولم تستسلم جبهة الأحزاب لتلك الحقائق حول التسجيل. فقد سقمت نفوذ الحزب الشيوعي في الفترة الانتقالية منذ نجاح الثورة وقيام الحكومة في نوفمبر 1964. وقررت أن ما لم يتحقق كله فلا يترك جله. واتفقت أن تقوم الانتخابات جزئية. فتجري في الشمال على أن يستدركها الجنوب لاحقاً. ولم تلتفت لمعارضة جبهة الهيئات والشيوعيين وحزب الشعب الديمقراطي (الختمية) الذين رأوا في جزئية الانتخابات لجمعية تأسيسية موكول لها وضع دستور البلاد خطراً على وحدة البلاد. بل قال كلمنت أمبورو، وزير داخلية الثورة ذوو الميول لجبهة الجنوب، إن قصر الانتخابات على الشمال هو فصل للجنوب. وزاد بأن الشماليين كانوا يتهمون الجنوبيين بفصل الجنوب وها هم يمهدون لفصله بالانتخابات في الشمال دون الجنوب. ولم تعدم الأحزاب نصيراً من الهامش والجنوب بالذات. فبينما قاطع الانتخابات حزب الشعب الديمقراطي وحزب جبهة الجنوب (من قادته بونا ملوال محرر جريدة الفجلنت) لجزئيتها شارك في الانتخابات كل من سانو بقيادة وليم دنق (10 مقاعد) وكتلة جبال النوبة (10 مقاعد) ومؤتمر البجا (10 مقاعد) والأحرار الجنوبي (2) والوحدة الجنوبي (2). وقبل حزب سانو دخول تلك الانتخابات المعيبة بعد ضمان وزارتين مميزتين لأعضاء منه. أما العاهة الكبرى لهذه الانتخابات التي أعطتها صيتاً سيئاً فهي ما عرف ب"نواب التزكية". وهي عاهة جعلت الديمقراطية مسخرة كما اعترف السيد الصادق المهدي بنفسه في قادم الأيام. فترشح أولئك النواب، وأغلبهم من التجار الشماليين في الجنوب (الجلابة)، في دوائر لم يتقرر إجراء الانتخابات فيها لانعدم التسجيل. ولما لم ينافسهم أحد فازوا بالتزكية. ولم تعتمد لجنة الانتخابات فوزهم فقاضوها. وأجازت المحكمة العليا وضعيتهم نواباً في الجمعية التأسيسية. ولا أعرف من عض بنان الندم على هذه التبرج السياسي مثل السيد الصادق المهدي في مقالة عن انتخابات 1965 على موقعه في النت. فقال إن نواب التزكية هم الخطأ السياسي الثاني في فترة الديمقراطية الثانية (1964-1969). وهذا نصه: الخطأ الثاني: هو السكوت على مسألة نواب التزكية. وتفصيل ذلك أن الأحزاب السودانية عدا حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي وجبهة الهيئات قد اتفقوا اتفاقا واضحاً على تأجيل انتخابات المديريات الجنوبية عند إجراء الانتخابات العامة عام 1964م. ولكن القرار الرسمي الحكومي بتأجيل انتخابات المديريات الجنوبية جاء بعد وقت من شروع لجنة الانتخابات في إجراء الانتخابات مما مكن عدداً من المواطنين من ترشيح أنفسهم في واحد وعشرين دائرة في المديريات الجنوبية. وحسب إجراءات لجنة الانتخابات أُعلن فوزهم بالتزكية. هذا الفوز لم يكن معترفاً به سياسياً ولا قانونياً عندما جرى إعلانه. ولكن بعد الفراغ من الانتخابات العامة وتكوين الحكومة الائتلافية الأولى ساعد أحد الأحزاب السياسية الكبرى، وهو الحزب الوطني الاتحادي الذي كان مندوبه لشئون المديريات الجنوبية مسئولا عن أغلب الترشيحات التي تمت في دوائر التزكية، ساعد عددا من هؤلاء المواطنين على التقدم بقضايا نظرتها المحكمة. وبنت على مسائل الإجراءات الانتخابية قرارها بقانونية فوز هؤلاء المواطنين بالتزكية. في هذه الواقعة في 1965 خلاف صريح واضح في المركز (ونقبل بالمفهوم ولو قصدوا به الجلابة جدلاً) بين أحزاب سياسية ليس صعباً نسبتها جميعاً للشماليين. وسيبقى على من يذيعون في الهامش ذائعة استبداد المركز الشمالي التاريخي أن يجيبوا على السؤال: لماذا اختار سلفهم من المركز مركزاً دون مركز؟ لماذا هذا الخيار والفقوس والبضاعة واحدة شايقية وجعليون ودناقلة كما جرت العبارة؟ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.