سطر القضاء السوداني في دفاتره قضايا تاريخية شكلت علامات فارقة في تطور البلاد القضائي والدستوري، وساهم في رسم الدور المطلوب منه بترسيخ دعائم حكم القانون وإرساء قواعد حقوق الإنسان والتمييز بين الدولة السلطوية والدولة المدنية. ومن بين ما أرساه من مبادئ ما قضى به في قضية جوزيف قرنق وآخرين (ضد) حكومة السودان والتي اشتهرت في التاريخ السياسي بقضية حل الحزب الشيوعي، فقد وقف فيها القضاء بحزم ضد قرارات الكتل النيابية الغالبة في البرلمان التي استهدفت تعديل دستور الفترة الانتقالية خلال الديمقراطية الثانية بما يسمح لها بحظر نشاط الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، وانتصر لقضية الحقوق الأساسية التي تعد أصل الدستور والتي لا يجوز للاغلبية انتهاكها. وفي قضية أسماء محمود وعبد اللطيف عمر (ضد) حكومة السودان والتي طالب فيها المدعيان باعلان بطلان اجراءات المحاكمة، التي جرت للاستاذ محمود محمد طه، وأربعة من الاخوان الجمهوريين خلال فترة العهد المايوى، والتى قضت باعدام الاستاذ محمود بتهمة الردة واستتابة تلاميذه الاربعة . وتعد هذه القضية درساً من دروس القانون الدستوري والحقوق العامة، خلصت فيها المحكمة العليا لبطلان الحكم الذي قضى بردة الأستاذ محمود محمد طه وإلغاء الأوامر التي تمت بموجبه، وقد أكد هذا الحكم على الحق في الحصول على محاكمة عادلة وبرأ ساحة القضاء السوداني من قضاء المحاكم التي اصطنعتها السلطة العسكرية للقضاء على خصومها السياسيين. لا يخالجني شك أن حكم محكمة اول درجة في قضية الشهيد أحمد الخير سيجد حظه في تاريخ القضاء السوداني كأحد القضايا البارزة في الطريق الصاعد إلى مشارق النور، مثل قضية حل الحزب الشيوعي السوداني وقضية إبطال الحكم بردة الأستاذ محمود محمد طه، باعتباره أحد الأحكام التي انتصرت لحكم الدولة المدنية العادلة ضد الدولة السلطوية. فقد وضع أجهزة الأمن في موقعها الصحيح كأحد الدوائر الحكومية التي يتعين أن تخضع لأحكام القانون في خدمتها للدولة ومراعاة حقوق الانسان، وأن سلطانها ليس مطلقاً كما تم تصويرها في الأذهان، أو أنها تستطيع أن تتصرف في المعتقلين لديها كما تشاء دون رقابة عليها، وأن التجائها لأجهزة القانون ليس من باب التفضل والاحسان، كما ألقى رؤساء جهاز الأمن في روع منسوبيه، فذكر صلاح قوش ذات مرة في معرض تنويره لبعض منسوبي الجهاز (القدرة أنك تمتص الذي يسيء إليك وأنت في موقع السلطة ، انت طالما بتقدر تعمل فيه الدايره لكن الحسنة والاحسان أنك تستحمل)، وبهذا أزاحت المحكمة أسواراً من السلطة المستلبة بغير رقيب والجبروت القابض وأخضعته لحكم القانون. في غمرة الاحتفاء بصدور الحكم اهتم الناس بأحكام الإدانة بموجب المادة 130 والمادة 21 من القانون الجنائي لسنة 1991 على أساس ارتكاب جريمة القتل بالاشتراك تنفيذاً لاتفاق جنائي بينهم، إلا أن المحكمة قررت حكماً آخر لا يقل أهمية عن ذلك وهو إدانة ثلاثة من المتهمين بتهمة الاعتقال غير المشروع بالاتفاق فيما بينهم. وهو لا يقل وزناً عن سابقه في ميزان حقوق الانسان. فالعقلية التي تسوغ الاعتقال دون سند من القانون، ودون اللجوء للاجراءات التي يتعين اتباعها هي التي تؤسس للتنكيل بالمعتقلين والتصرف دون قيد يردعهم إلى حدود التعذيب حتى الموت، أو كما ذكر صلاح قوش (تفعل فيهم ما تشاء). وقد جرت العادة في اعتقالات أجهزة الأمن أن ينتاش منسوبوها من يريدون في أي وقت وأي مكان دون إبراز ما يوضح هويتهم أو السند الذي يؤسسون عليه إجراءاتهم أو حتى منح المعتقل فرصة التواصل مع ذويه وإخبارهم باعتقاله، وكأنهم الحاكم بأمره. وأصبح هذا الوضع ثقافة سائدة مسلم بها. وقيمة حكم محكمة أول درجة أنه تصدى لهذا الوضع بما يستحق وأوضح فداحة ما تقوم به الأجهزة الأمنية من تجاوز. كشف الحكم أيضاً عن سرعة في تقديم القضية للمحكمة دون أن تشمل اجراءات التحقيق والتحري أشخاص ودوائر ذات صلة مباشرة بها، وبرز دورهم في تضليل الرأي العام ومحاولة ضعضعة الاجراءات في قضية رأي عام، مستغلين مناصبهم الرسمية ، من بينهم عميد كلية الطب بجامعة القضارف الذي أقسم على تحققه من عدم وجود أي جرح أو نزيف أو اثر تعذيب ظاهر من خلال اطلاعه التقرير الطبي واستفساره من الطبيب المختص. كما أن مدير شرطة ولاية كسلا أيضاً شارك بذات القدر وأكثر بحكم بصفته الأمنية وعلو مرتبته. وكان يجب أن يشمل التحقيق هذين الشخصين، واتخاذ الاجراءات الجنائية بشأنهما. ففي عهد التواصل الاجتماعي السريع وانتشار وانتشار وسائله، من الضروري التشديد على جرم تضليل الرأي العام وتعطيل العدالة من خلاله. فأثر الجرم يتطاول إلى فضاء واسع يصعب معه تحديد أثره. طوت محكمة أول درجة بهذا الحكم الفصل الأول في مسيرة تحقيق العدالة في القضية، وما زالت الأبواب مشرعة أمام المدانين وأولياء الدم لاستئناف الحكم والطعن فيه أمام درجات قضائية بما فيها محكمة الاستئناف والمحكمة العليا، في وضع صحي لا يخاف فيه قاضي على منصبه بسبب حكم يصدره ولا يخشى فيه شاهد من اعتقال لإفادة قدمها ولا يرضى عنها جهاز الأمن وعلى عين الأشهاد، فتحقيق العدالة لا يقتصر على تطبيق مقتضياتها فقط وإنما أيضاً مشاهدتها وهي تطبق. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.