الصحفي .. وحبيبته "الجريدة" .. الشاعر .. وقصيدته الجديدة. (محمد سليمان - الدوحة) رحل فضل الله محمد قبل أن يتمكن الكثيرون من أن يقولوا له لآخر مرة "ياخي، بعد الشر عليك". لا أزعم أنني كنت صديقاً قريباً له، وهو مبعث ندم، ولكن كان بيننا الكثير من الأصدقاء المشتركين الذين أكرموني بلقائه لماماً في حضرتهم، وأولهم ذلك الذي لا يقل عن فضل الله نقاءً ووداً ورحابة وحباً للناس، صديقنا المشترك مبارك بشير الذي يستحق مني عزاءً خاصاً في هذا الوقت الحزين. عرفت الأستاذ فضل الله أكثر في الشأن العام وفي الحقل الأدبي والثقافي. اختلفت مع فضل الله في كثير مما كان يكتبه إبان الحقبة المايوية، ثم واتفقت واختلفت مع ما كتبه في فترة الإنقاذ، غير انني ظللت في كل الأوقات وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف، مأخوذاً برزانته ولغته الرفيعة وحسن عبارته ورصانته وأسلوبه الأنيق، غير اتساع إلمامه وشمول نظرته للأشياء، في أزمان شكلت فيها الهتافية والضحالة والبذاءات مانشيتات الصحف. صحافياً، عشق فضل الله "الجريدة"، وعاشقاً غار منها وعاتبها وهي تشغل عنه محبوبته. ربما سخرنا في بداية عهدنا بالأدب والشعر من كلمات مثل "بتقري في إيه؟ .. كلميني .. يا سلام، مهتمة عاملة!" و "أقل حاجة تخلي سفرك .. حتى لو أسبوع أقلو" و "السفر ملحوق ولازم انت تجبر بالمشاعر" و "قالوا متألم شوية ..." و"في حب ياخوانا أكتر من كدة؟" و"شهر عشرة .. حبابو عشرة" وتساءلنا إن كان ذلك من الشعر في شيء. ولكن لفتتنا دراسة الأدب الإنجليزي فيما بعد، وخاصة ثورة الشعراء الرومانسيين وانقلابهم على ما وصفوه باللغة المنمقة النبيلة الفاخرة المفخمة التي وسمت الشعر الكلاسيكي، ومن ثم تحولهم، كما قال ويليام وردورث إلى "لغة الحياة اليومية" والتي تتيح للشاعر أن يكتشف الطبيعة الإنسانية والحقيقة بطريقة أفضل "حيث أن تلك اللغة البسيطة الأقرب للنثر، هي أيضاً الأكثر أمانة وصدقاً في التعبير عن حياة الناس العاديين". لغة الحياة اليومية المملؤة صدقاً ودفئاً وحنينا، والتي رسخها فضل الله محمد في تلك الأبيات، وفي شعره عموماً، إنما هي ذاتها "الجسارة اللغوية" التي تحدث عنها صلاح عبد الصبور في "حياتي في الشعر" حينما يقول عن ت.س. إليوت "لم تستوقفني أفكاره أول الأمر بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية، فقد كنا نحن ناشئة الشعراء نحرص على أن تكون لغتنا منتقاة ومنضدة تخلو من أي كلمة فيها شبهة العامية". بتلك الجسارة، فتح فضل الله محمد للشعر السوداني مجرى غنياً ودفاقاً جديدا، وتلك هي مأثرته الخالدة. تعازي الحارة ومواساتي لأسرته وأصدقائه وزملائه وقبائل الصحفيين والشعراء والأدباء وغمار الناس العاديين الذين كتب بلسانهم فأفصح وغنى لهم فأبدع.