تستحضر ذاكرتي حكاية سجلها الأديب والمؤرخ الاجتماعي حسن نجيلة في كتابه ملامح من المجتمع السوداني عن قصة بناء مسجد الجامع الكبير بسوق أمدرمان الذي يقع خلفه من جهة الشرق نادي الخريجين العريق. القصة باختصار تتلخص في أن الجامع الذي بدأ العمل في تشييده صار خرائب تأوي الكلاب الضالة والقط والغربان بعد أن توقف العمل في تشييده. وأن مواطن أمدرماني مسيحي من سكان حي المسالمة (لا يستحضرني اسمه) ثارت ثائرته وهو يرى القوى الوطنية، التي كانت خطب مثقفيها ترعد وتمطر الجماهير بالخطب الرنانة عن مجدنا وصلابة عزمنا على الحرية، تعجز عن اكمال بناء المسجد الذي يتوسط سوق امدرمان. فصاغ قصيدة نارية جارحة تفيض عاطفة ألقاها على مسامعهم في نادي الخريجين، يندد فيها بالقوى الوطنية متعلمين وتجارا متسائلا فيها : كيف ندعي بأننا نطمح إلى الاستقلال وبناء الوطن ومجده، بينما بيت الله بيننا خرائب ينعق في أرجائها البوم ونحن عاجزون عن اكمال تشييده؟. وقد استفزت القصيدة أهل امدرمان وأثارت ثائرتهم خجلاً من أنفسهم خاصة طبقتي الانتلجنسيا والتجار فيها، فهب الجميع في حملة محمومة نشطة لجمع التبرعات، إلى أن تم إكمال بناء الجامع الكبير بفضل مسيحي من أمدرمان!. دعونا من الجانب الواضح من هذه القصة، ذلك الذي يعكس ويجسد أسمى أشكال التعايش والتسامح والقبول، وسمو العاطفة الوطنية، وتجاوز الحس الوطني لكل أشكال الانتماءات الأخرى، عاطفة ترقى لمستوى الحب، حب الأخر المختلف. فهذا لا يحتاج كبير عناء لرؤيته. ولكنه الجانب الآخر غير المرئي: الجامع نفسه!. ما الذي كان يعنيه الجامع بالنسبة لهؤلاء الوطنيون؟. لم يكن الجامع في مرمى بصرهم. كانوا ينظرون إلى الوطن الكبير كله فعميت أعينهم عن رؤية الجامع. الوطن خريطة – جغرافيّاً – بمساحة مليون ميل مربع .. ولكنه على الورقة بمساحة قبضة اليد. بينما الجامع أكبر من قبضة الجميع. لذا لم يروا في الجامع التجسيد الماثل للوطن. ومن لا يعرف قيمة وقدسية الجامع. من يهمل الجامع، ويعجز عن بناءه، ويهمله، ولا يحرص على نظافته وإنارته. كيف وطناً بمساحة مليون مربع؟!. ليس الجامع وحده .. ولكن كل حي، وكل شيء مهما بلغ صغر فيه، هو تجسيد للوطن... الناس الذين حولنا في كل مكان: البيت .. الشارع .. والأشجار .. والأحجار .. كل شيء ينتمي لنا، هو الوطن مجسداً بين يدينا وعلى مرأى من أعيننا. هو رمز لعزتنا وكرامتنا. إذا فقدناه، فقدنا شيء من أنفسنا، من عزتنا، من كبريائنا، من كرامتنا عميت أعين من كانوا يناضلون قبلنا من أجل الحرية والاستقلال للوطن، عن رؤية ما بين يديهم .. فضاع منهم ما كان على الورق!. لذا حين انتشرت صور الأسود الجائعة التي تفطر القلب على منصات التواصل الاجتماعي وانتقلت من ثم على شاشات القنوات والصحف الأجنبية، اجتاحني شعور بالعار والخجل، وتملكني غضب تمازجه غصة في الحلق، أن نكون هؤلاء نحن. كيف نكون نحن ذات الذين كان العالم يتناقل صور جسارة أبناءنا وبناتنا.. واقتحامهم الموت بصدور عارية من أجل حريتهم ، ويجسدون كل القيم النبيلة، هم ذاتهم نفس الناس الذين يأسرون اللبؤات في الأقفاص، ويتركونهم يموتون جوعاً موتاً بطيئاً، بقلوب قاسية متحجرة لا تعرف الرحمة؟. أوليسوا هم الذين يعرفون بأن ثمة امرأة أدخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض؟!. الحق أقول لكم: أخشى أن صور هذه اللبؤات قد محت كل صور المظاهرات والاعتصامات وأفرغتها من الألق الذي كان يزينها. وهكذا تضيع الأشياء العظيمة الكبيرة حين نهمل الأشياء التي نحسبها صغيرة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.