تحسرت أن لقاء الأستاذ عثمان ميرغني مع السيد عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء، والسيدين إبراهيم البدوي ومدني عباس مدني، وزيري المالية والصناعة والتجارة بالتتابع، انصرف إلى الطعن في عثمان من جهة جيناته الكوزية والاستنكار المعمم لمهنيته. فغابت بالنتيجة عنا رصانة حمدوك والبدوي ومدني من حيث تملكهم لزمام ما يليهم من مسؤوليات. أعجبتني عبارة حمدوك الموجزة في قول ما هو بصدده بغير حاجة للإنجليزية (إلا نادراً) التي توطنت كالقراد في تعبير أهل الرأي عندنا. بل ولتفكيره بالمفاهيم حتى في شرط المقابلة "المعاشي" في مثل الحاحه على أنهم بصدد بناء "النموذج السوداني" كما شرحه. ولم تُشكل الإجابة على كل من البدوي ومدني وهما من صوب إليهما عثمان سهام انشغال الشارع المباشر العاصف في الدولار والخبز. ليس من أحد يزايد على عثمان ميرغني في اصطفافه الثوري. فهو أيقونة حرية التعبير في السودان بغير منازع. وقد نعود لذلك لاحقاً. ومن الظلم طعن مهنيته بعمومية كسولة مثل قولنا إنه كان استفزازياً إلخ. فهو مهني وتبقى مهنيته مع ذلك خاضعة للمؤاخذة بمسؤولية لا جزافاً. جاء عثمان للمقابلة مع رئيس الوزراء بسقف مزعوج سماه هو نفسه "هناك شكوى". وتمثل في ارتفاع الدولار وصفوف الخبز وأداء بعض الوزارات الذي سماه "تحت الخطر". وهي شواغل لا مهرب منها بالطبع غير أنه جاء بها بتوقع أنها إما وجد لها حلولاً من "فم الأسد" (حمدوك) أو الكارثة. وبدا لي ذلك "زف" لا أعرف إن كان الإعلام كحالة وعي يأذن به. وبلغ من هذا "الزف" أن تغالط معه حمدوك حول عمر وزارته: ستة أو أربعة شهور. ولم يطب عثمان نفساً بما سماه "وعود بعيدة المدى" كلما جاء رئيس الوزراء أو الوزيران بالتزامات غير آنية التحقق. وأحسبه سعد إيما سعادة حين حصل على وعد من مدني بأن يوفر الخبز في 3 أسابيع وعلى وعد وشيك آخر خلال شهرين لم أوفق في تدوينه. لم يرغب عثمان أن "يلعب" مع حمدوك والوزيرين لعبة "تركة الإنقاذ". فقالها صريحة إنه لا يريد لنا أن نكرر أن القصور في هذا الأمر أو ذاك من أثر تركة الإنقاذ. وكان يلح: "قول لي هسع". وربما رأي عثمان في "اللعبة" تهرباً من طول ما تعذرت الإنقاذ بالحصار الأمريكي لها. ولكن لا تخلو محاسبته للوزارة الانتقالية بعادة الإنقاذ في إدمان التبرير من شطط. بل من واجب الإعلام، كموئل تنوير ووعي، أن يصطحب في مثل هذه المقابلة وعيه هو نفسه بهذه التركة لا ينتظر ذلك من رئيس الوزراء والوزيرين. كنت أنتظر نقاشاً ذكياً حول موضوع المضاربات المحمومة الأخيرة في الدولار الذي رده حمدوك والبدوي لإجراءات طالت صناعة المال الفاجر في الذهب والدولار. ومجت نفس عثمان هذا الحديث بل شخصن الحالة بسؤاله "من هم من ورائها" بريد حمدوك أن يسمي أسماء. بل زاد بقوله بأنه ظل يسمع ب"المضاربات" طوال عهد الإنقاذ ولا وقت له لتكرارها من جديد. وكان حرياً به أن ينفذ إلى ديناميكية هذه المضاربات في سياقها الجديد الذي عزمت فيه الدولة على اقتحام أوكار المال الفاجر لا تشل يدها علائق الفساد التي كانت للإنقاذ مع هذا المال. بل وددت لو جاء عثمان لمائدة المقابلة بأسئلته هو عن هذه الديناميكية التي تتوافر لمثله بتحقيقات استقصائية من باطن مصانع المال الفاجر. وبهذا الشرط وحده، شرط أن التركة من المعلوم بالضرورة لها سدنتها وسيقاتلون دون نزع براثنها من قلب اقتصادنا، يرقي فهم المواطن إلى دقائق الشرط الذي يكتنف أداء الوزارة والمجتمع. سأتجاوز الحاح عثمان المتواتر حول تغيير الوزارة أو الاستغناء عن بعض الوزراء، أو وصلاحيات حمدوك في إبدال الوزراء وإحلالهم واكتفي بلومه على سؤاله عن أداء البدوي ومدني وهم شهود. وكذلك ما سيفعله حمدوك حيال أداء وزيرة الخارجية. فلا أعتقد أن فهمنا لأداء الوزارة الانتقالية احتاج إلى السؤالين. لا مُزايد على ولاء عثمان للثورة. فقد اختلط حبره بالدم من أجل الحقيقة حين عز نصيرها. ولكن وددت من كل قلبي لو أدار مقابلته النادرة مع رئيس الوزراء والوزراء على حقائب الأزمة بعزيمة الاشتباك مع "شكوى الناس" على مستوى متقدم بالوعي بالثورة لا لمجرد استحثاثهم لمواقيت للفرج المعاشي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.