شكّل اللقاء التاريخي الذى عقده الفريق عبدالفتاح برهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي مع بنيامين نتانياهو رئيس وزراء اسرائيل فى عنتيبي اوغندا يوم الاثنين 3 فبراير 2020 نقلة نوعية فارقة في السياسة السودانية طال انتظارها. وبصرف النظر عن التفاصيل التي يتداوس حولها قصيرو النظر حول من أخطر من، وكلها مماحكات لا طائل منها تعكس قصر نظر مخيف عند 8بعض من يتولون مواقع وزارية، إلا أن اللقاء فى جوهره شكل انطلاقة جديدة للدولة السودانية بعد ثورة ديسمبر المجيدة. وقد كان حري بثورة ديسمبر أن تحدث هذه النقلة النوعية فى دولة تهاوت على جذوعها أو كادت نتيجة أخطاء تاريخية لقياداتها المختلفة. تأتي أهمية اللقاء من طبيعة هذه النقلة الجريئة لإخراج بلادنا وانعتاقها من قيود الحرب الباردة وايدولوجياتها الأممية أو الإقليمية البائسة. للتأكيد على ما نقول للقارئ أن ينظر لمن يعارضون اللقاء ستجد أنهم جميعاً يساراً أو يميناً أسرى لأفكار وايدولوجيات وافدة علي بلادنا تسببت فى دمارها وتخلفها منذ استقلالها. جميع هؤلاء سعوا عبر العقود لأن يبقى السودان أسيراً لمراكز قوي خارجية تملي عليه كيف يتصرف فى العالم، من يصادق، من يعادي. ومتى ما حاول أي قائد أو مفكر كسر ذلك الإطار القديم ووضع مصالح السودانيين كأولوية نهضت إليه تلك القوى ودمغته بالعمالة والتبعية الخ... ونسيت أنها هي ذات نفسها وكيلة لأنظمة أو جهات خارجية حاولت و بالمفتوح ولاتزال أن تملي إرادة تلك القوى الخارجية على شعب بلادنا. تأتي أيضاً الأهمية القصوى الأخرى للقاء من أنه أعاد تركيز التفكير العام حول مصالح شعبنا وأولوياته وحقه فى الحياة الكريمة مثله مثل بقية شعوب الأرض حيث المعيار الوحيد هو مصالح بلادنا وشعبنا أولاً وثانياً وثالثاً. لقد ظلت السياسة الخارجية لبلادنا منذ استقلالها تقوم على التبعية وتتم التضحية بمصالح الشعب من أجل قضايا يصعب تأثيرنا عليها بل ربما ينعدم ولا نستشار فيها بل ننتظر الآخرين ليقرروا ما يريدون ثم نبصم لهم دون النظر في التكلفة السياسية والاقتصادية لتلك التبعية العمياء على شعبنا وحقه فى الحياة الكريمة. وباختصار ظلت السياسة الخارجية للبلاد تدار بعقلية عمياء تابعة لا ضوابط ولا موجهات وطنية لها، بل عمل أغلب القادة السودانيين على أن تتطابق مواقف الدولة الرسمية فى كثير من القضايا مع المواقف الإقليمية دون أن يتوقفوا لبرهة ليسألوا إن كانت تلك التبعية تضر ببلادنا وشعبنا أم لا؟ وهكذا انتهى بنا الأمر بأن أصبحنا بلاداً ليس لها سياسة خارجية خاصة بها ومن ثم فقدنا استقلال قرارنا الوطني نبصم علي كل ما يقرره الآخرون، وحتى إن تنكّر الآخرون لما قرروه فى السابق تظل بلادنا وسياستنا الخارجية ملتزمة بتلك القرارات والمواقف التى تجاوزها حتى الذين اتخذوها. إن أهمية لقاء عنتيبي تأتي من أنها أكبر محاولة جريئة منذ الاستقلال لكسر أطر السياسة الخارجية القديمة والخروج من ربقة التبعية المذلة والدوران في الالتزام بسياسات إقليمية عفا عليها الزمن وذرتها رياح العولمة ونضب معين من قرروها. الآن وفرت ثورة ديسمبر المجيدة الفرصة لنا لنتوحد جميعاً حول حقنا فى أن نقرر سياستنا الخارجية على مرتكز سياسي وحيد هو مصلحة بلانا وشعبنا وأن نقرر سياستنا الخارجية فى الخرطوم وليس فى أي مكان آخر، إن أردنا ان نصالح دولة صالحناها علي بينة وإن أردنا أن نعاديها عاديناها على بينة معيارنا فى كل ذلك هو مصالح بلادنا ومصالح شعبنا معها. أما القضايا الإقليمية والدولية الأخرى فموقفنا منها يأتي في المرتبة الثالثة والرابعة أما قضايا الدرجة الثانية فهي القضايا التى يمكننا أن نعمل (أضان الحامل طرشاء) كما يقول المثل الشعبي خاصة وأن العالم مليء بالكثير منها، بل يجب علينا ألا نكون (متلقين حجج) فقد كلف (تلقي الحجج) شعبنا رهقا. إن أهمية النقلة التي أحدثها لقاء الفريق برهان مع بنيامين نتنياهو هي أنها أعادت التفكير ولأول مرة منذ الاستقلال فى الأسس التي تقوم عليها سياستنا الخارجية، ولذلك بدلاً من أن ينغمس رئيس الوزراء وحكومته وقوى الحرية والتغيير في مماحكات لا طائل منها عليهم الدعوة لمؤتمر لمختصين لوضع أسس وموجهات ثابتة تقوم عليها سياسة بلادنا الخارجية تنبني أساساً على مصلحة شعبنا وبلادنا وليس على الأيدولوجيات أو المواقف الإقليمية من القضايا الخارجية. ما يدور الآن بين قوى الحرية والتغيير والحكومة من جهة ومجلس السيادة من جهة أمر لا معنى له لأن قوى الحرية والتغيير التي رضخت لابتزاز الجبهة الثورية فى تعيين الولاة المدنيين وتعيين المجلس التشريعي ومن ثم انتهكت الوثيقة الدستورية جاءت الآن تستأسد وتزأر فى وجه رئيس مجلس السيادة وهو أمر مؤسف إذ كان بإمكانها تدارك هذا الأمر دون جلبة. وبالطبع على قوى الحرية والتغيير أن تسأل نفسها: لماذا هي نفسها لم تلتزم بوثيقتها رغم تنبيه الكثيرين من داخلها لها؟ سيكون للقاء عنتبي تداعيات طويلة المدى على بلادنا وشعبنا وليس الأمر أمر مصالح اقتصادية فقط كما يروج البعض رغم أهميتها؛ بل الأمر يتعداها لأنه يتعلق بموقفنا في العالم كدولة ذات سيادة تقرر وتبني مواقفها على مصالح شعبها ورفاهيته ولا ترهن قرارها للتطورات والمواقف الإقليمية من قضايا خارجية ليس لها تأثير يذكر عليها. إن أحد أهم عوامل التنمية الاقتصادية بل أولها هو امتلاك القرار الوطني في كل ما يخص بلادنا وقد ظلت بلادنا تتخبط يمنة ويسرة وتعمد قادتها تجاهل أهمية امتلاك القرار الوطني ودوره فى التنمية الاقتصادية. ومن نافلة القول أن امتلاك القرار الوطنى هو الشرط المسبق لإحداث التنمية فلكي تنهض ببلادك عليك أن تعلم مسبقاً من هم أصدقاؤك ومن هم أعداؤك ومن هم بين المنزلتين، وقد ظللنا في السودان نعادي دولاً عدة فقط لأن آخرين يعادونها ونصادق دولاً لأن آخرين يصادقونها وهكذا... لكن واقع الحال - وبالنظر للارتباط المباشر بين التنمية الاقتصادية وامتلاك القرار الوطني- يقول إن قضية التنمية الاقتصادية من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن ارتهانها للتطورات في قضايا أخرى خارجة عن سيطرتنا ولا نؤثر عليها وليس بوسعنا اتخاذ قرار بشأنها وننتظر فقط ما يقرره آخرون ومن ثم نعتمده دون حتى النظر فى المضار والتكاليف التي يتحملها شعبنا دون ذنب. فى الختام فالمسؤولية الأولى والأخيرة لكل رجل دولة هي مصلحة بلاده وشعبه وحقه فى الحياة الكريمة والتنمية والتطور.