حملت الأنباء في الأيام الماضية تعثر المفاوضات فيما بين مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة، وذلك بسبب شكوك الجانب الإثيوبي عن إنحياز الوسيط الأمريكي لصالح الجانب المصري! إستغلت إثيوبيا الموقف الأمريكي في المفاوضات الحالية والذي اعتبرته موقفاً غير محايد، للحشد السياسي على المستوى الداخلي، ولتعزيز موقفها على المستوى الإقليمي والدولي لضمان كسب معركتها بشأن سد النهضة، تماماً كما فعلت مصر في السابق أثناء مشروعها لبناء السد العالي. وحينها قام مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي بإيعاز من حكومة الولاياتالمتحدة الاميركية بعمل مسوحات في حوض نهر النيل الأزرق في الفترة ما بين الأعوام 1958-1964، واقترح قيام أربعة سدود على النيل الأزرق، وكان أحدهم السد الحدودي أو ما يعرف حالياً بسد النهضة. نظرت حكومة جمال عبد الناصر في مصر لهذه الاقتراحات الأمريكية على أنها محاولة لتقويض مشروع مصر التحرري، والذي كان يمثل السد العالي حجر الأساس فيه. لذلك أصرت حكومة جمال عبد الناصر علي عدم ضم إثيوبيا لمفاوضات مياه النيل التي عقدت فيما بين مصر والسودان في العام 1959، فحينها كان المصريين يعتقدون بأن إثيوبيا سترضخ لرغبات ورؤى الإدارة الامريكية، وبالتالي ستقوم بتعطيل المفاوضات أو ستعمل ضد مصالح مصر! ولم تنظر حكومة مصر بعين الإعتبار لحوجة إثيوبيا الحقيقة للمياه لتكون قادرة على استيفاء متطلبات زيادتها السكانية. فمن جهة إستمر الموقف المصري الرافض لإشراك أية أطراف من خارج منظومة دول حوض النيل بأية مفاوضات بشأن مياه النيل طيلة عهدي السادات ومبارك، لاعتقادهم بأن الأطراف الخارجية سوف لن تكون قادرة على فهم طبيعة الخلافات المعقدة فيما بين دول الحوض، وبالتالي من السهولة بمكان أن تتحيز ضد المصالح المصرية أو ستمارس بعض الضغوط عليها، أو ستطرح اقتراحات ورؤى غير موفقة مثل اقتراح البنك الدولي بشأن تسعير المياه، لكونها لا تقبل ان يدفع صاحب الحقوق المكتسبة في مياه النيل مثل مصر والسودان مقابل مادي لمياه تعتبر من حقوقهم! ومن جهة أخرى مصر أصرت حالياً على إشراك الولاياتالمتحدة والبنك الدولي كوسيطين في ملف سد النهضة بصورة تدعو للإستغراب والسخرية! فما الذي تغير الآن لتغير مصر موقفها؟ فالولاياتالمتحدة هي نفس الدولة التي اقترحت قيام أربعة سدود بما فيهم السد الحدودي أي سد النهضة، والبنك الدولي هو من قدم مقترح تسعير المياه، وهما من ضمن المقترحات التي ظلت السياسة المصرية تنظر اليها بعين الريبة على الدوام! هل هنالك آفاق للحل؟ نعم توجد فرص كبيرة لحل الخلافات الحالية عبر الحوار، ولكن من الضروري أن تتوقف الحملات العدائية، والترهيب بالذات فيما بين مصر وإثيوبيا. تستحضرني الآن بعض الأفكار العملية والنيرة التي تناولت نزاعات مياه النيل والتي لا يتسع المجال الآن لذكرها بالتفصيل وأكتفي فقط بالإشارة اليها، والتي يمكن أن يتم تطويرها، ويبنى عليها باستخدام معطيات اليوم من معلومات ودراسات دقيقة عن مشاكل دول الحوض وحوائج مجتمعاتها، لبناء مشروع تكاملي يعزز السلام والتنمية في المنطقة ويخدم جميع دول الحوض. ومن بين أبرز هذه الأفكار ما أورده الإمام الصادق المهدي في كتابه مياه النيل الوعد والوعيد، الصادر عن مؤسسة الأهرام في العام 2000 بشأن الحلول التي تضع حداً للنزاعات وتعزز علاقات دول الحوض، وأيضا مقترحات الدكتور الفاتح الطاهر في ورقته المنشورة في إصادرة نيتشر ميدل إيست عام 2017 بعنوان إقتسام النيل والتي تحدث فيها عن التوسع في تعليم البنات، وإستخدام البذور المحسنة، وتقنيات الري الحديثة لتقليل الهدر في المياه، بالإضافة الي العديد من الأفكار القيمة. كما اورد الدكتور ابراهيم الامين في كتابه السودان الأخضر بين دفتي السد العالي وسد النهضة الصادر في العام 2015 كثير من الأفكار والاقتراحات العملية التي يمكن البناء عليها مثل استخدام العلم الناتج عن التقنية الحديثة في حل بعض المشكلات داخل مجتمعات دول الحوض. وفي ظل حالة الاستقطاب الحادة بين مصر وإثيوبيا يتحتم على الجميع التفكير خارج الصندوق، وإستعراض كل الحلول الممكنة لإحتواء الخلافات. وقد اقترحت بعض الحلول ومنها ما يلي: 1. أن تقوم اثيوبيا بتقليل حجم التخزين في سد النهضة من 74 مليار الي 11 مليار، على ان يتم تعويض إثيوبيا مالياً، والزام السودان وجنوب السودان بشراء حصص كبيرة من كهرباء السد بأسعار مجزية لإثيوبيا، وفي المقابل تمنح أثيوبيا السودان اليد العليا في تحديد مواقيت ملء البحيرة، وطرائق التشغيل والصفة الرقابية. 2. تتعهد مصر باستغلال نفوذها في منظمات التمويل الدولية لإيجاد تمويل ميسر لإثيوبيا لبناء سد كاردوبي، وبعض السدود الأخرى التي ستمكن إثيوبيا من الإستفادة من مواردها المائية بصورة أمثل، دون إلحاق الضرر بدولتي المصب. 3. تتفق دول السودان وجنوب السودان واريتريا وإثيوبيا ومصر على إنشاء خط سكك حديدي يربط فيما بين هذه الدول، على أن تسمح مصر لإثيوبيا، ودولة جنوب السودان باستخدام الموانئ المصرية دون رسوم، كما تسمح للسفن الإثيوبية وسفن دول جنوب السودان ودول حوض النيل الأخرى بعبور قناة السويس دون رسوم. 4. أن توافق دول المنبع على القيام بدراسات فنية، ومن ثم إنشاء آليات تساهم في الحد من هدر المياه، وحصاد أكبر قدر من مياه الأمطار لزيادة منسوب المياه في نهر النيل، الأمر الذي سيزيد من حصتي السودان ومصر. 5. أن تقوم مصر بدور حقيقي وريادي في إقناع رؤوس الأموال العربية بالاستثمار في قطاع الخضراوات والدواجن واللحوم في السودان وجنوب السودان لتوفير الغذاء لجميع دول الحوض، مما يساهم في تقليل إستخدام المياه في مصر. 6. تقوم دولة السودان وجنوب السودان بمساعدة إثيوبيا بزراعة بعض المحاصيل وتصديرها لها بأسعار تفضيلية مقابل تعهد اثيوبيا بعدم القيام بأية مشاريع مائية أو زراعية كبيرة على النيل الازرق. أما في حالة نيتها لعمل مشاريع صغيرة يتوجب عليها أخذ موافقة السودان ومصر. وعليه، يمكن النظر لمشروع سد النهضة على أنه فرصة عظيمة لإثراء النقاش حول أفق الحل الجماعي والإستراتيجي الذي يحقق تطلعات دول المنبع، ويزيل مخاوف دولتي المصب ويعزز التنمية والسلام فيما بين دول الحوض، وليس فرصة لفرض الحلول الأحادية والتي أثبتت الأيام فشلها مرة بعد أخرى. د. احمد عبدالله الشيخ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.