تردّدتُ كثيراً في كتابة هذا المقال، مخافة سوء الظن من وراء القصد. وأعني بالظن زملائي في حقل الإعلام، ولي تقدير خاص لجلهم ولوزير الإعلام الصحافي البارع فيصل محمد صالح. لكن هذا لا يعفوه أو يعفو وزارته من أن نقول إن وراء الأكمة ما وراءها! وليحسب هو وطاقم وزارته ما أكتبه هنا شأناً عاماً ونوعاً من المشاركة في النقد الذاتي باعتبار كاتب هذه السطور محسوباً على قبيلة الثقافة والإعلام لما يشارك به من جهد متواضع في الكتابة بين الفينة والأخرى. أو لعلي بهذه السطور ألفت نظرهم إلى ما قد يغيب عليهم وهم يتصدون بالتخطيط والتنفيذ لإصلاح أكثر من زاوية معوجّة في إعلام تحدّث الكثيرون قبلي بأنه يحتاج أكثر ما تحتاج مؤسسات الدولة كلها إلى غربلة لا تستثني إلا القلة. غربلة تفتح الباب على مصراعيه لوجوه جديدة، تضخ دم الثورة الفوار في عروق هذه الأجهزة بما يجعلها الصوت الأكثر وضوحاً لتطلعات أمتنا. نقول هذا لأنّ تضحياتِ بحجم ما قدم شعبِنا في ثورته التي أضحت مثالاً يحتذى بين شعوب العالم ، يستحق أن يكون إعلامها صدىً لهذا الإنقلاب الحضاري الكبير، لا أن تكون قنوات وصحف زمن الحيرة والودار هي وحدها التي تنعق وتصيح بأوقية حق وقنطار باطل كلما أصبحنا وأمسينا! قضيت ثلاثة أشهر وعشرة أيام في السودان قبل أن أعود لمقر إقامتي المؤقت ببريطانيا بداية هذا الشهر. ولقد إجتهدت ما سمح لي الوقت أن أتابع برامج الإذاعة والتلفزيون المختلفة. وأن تكون قراءة الصحف بعض نشاطي اليومي. وكم يؤسفني أنّ أقول إنّ ما خرجت به هو أنّ ثقافة الثلاثين سنة العجاف في صحافة وإعلام اللّت والعجن وخلط الحابل بالنابل ما تزال ماثلة بوضوح لكل من يطمح أن يرى أعمالاً ترقى لسطوع شمس الحرية عبر هذه المنابر الإعلامية.. الحرية التي ناضل شعبنا من أجل نيلها ثلاثين سنة. إنّ كاتب هذه السطور لا ينتظر من وزير الثقافة وطاقمه - الذين لا أشك في كفاءة ووطنية بعضهم - أن يمحوا بجرة قلم إعلام تربية الزيف والخطل الإنقاذي الذي باض وأفقس طوال ثلاثة عقود. نظلمهم إن طلبنا منهم العمل بسرعة البرق لمحو إعلام زمن الأستبداد. كن من حق شعبنا عليهم أن يسرعو في رسم خارطة لإعلام يشبه تطلعات إنسان ثورة ديسمبر. والعمل بجد لخلق مؤسسات إعلامية هي البديل شكلاً ومضموناً لمؤسسات إعلام زمن الخيبة الذي ما فتئت جيوب النظام الهالك تحركه لخطتها البديلة في خلق الفوضى طمعاً في انحراف مسار الثورة. لقد تحدثت إلى شرائح من أبناء وبنات شعبنا - ومنهم إذاعيون- حول الفضائيات وما كانت تقدمه سنوات الإنقاذ والجديد الذي تقدمه الآن؟ سألت البعض رأيهم عن منظومة الصحافة والإعلام الحالية. ما إذا كانت برامجها تعكس تطلعات الناس وقضاياهم. سألت البعض عما تقوله معظم هذه الصحف. وعن الإذاعة وبرامجها. طرحت كل هذه الأسئلة وسواها على شرائح مختلفة من أبناء وبنات شعبنا. ويؤسفني أن النتيجة كانت عدم الرضا والقناعة بأداء هذه المنابر الإعلامية. بل إن البعض - ومنهم كاتب هذه السطور - يرى أنّ جيوب النظام المباد ما تزال تملك منصات تسوّق عبرها بضاعتها المزجاة لإرباك شعبنا وتشكيك البعض في مسار الثورة ذاتها. وللإخوان المسلمين في السودان باع طويل من الفبركة والإعلام الزائف! لكنك يا سعادة الوزير تملك شرعية الثورة! إنّ أي ملم بمجريات الأحداث السياسية في العالم اليوم يعرف أن عصرنا يشهد موت الأيديولوجيا بمعناها الدغمائي Dogmatic الناشف. وأنّ العالم اليوم تحركه آلتان: المال والإعلام. إنّ دول الغرب الرأسمالية تحرسها اليوم مؤسسات إعلامية ربحية ضخمة، مهما ادعت الحيادية في الطرح. ونظام الإنقاذ ظل ثلاثين سنة يحكم شعبنا عبر إمبراطورية المال وآلة الإعلام المضلل والكاذب، إضافة إلى البندقية! لقد ذهبت الإنقاذ إلى قمامة التاريخ دون رجعة. لكنّ مالها وإعلامها لا يزالان يمرحان يا حكومة الثورة. وأعيد ما قلت يا وزير الإعلام: أنت وطاقمك تملكون الشرعية الثورية. ولا أظنها تسعى في اتجاه معاكس للوثيقة الدستورية! اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد. فضيلي جمّاع لندن - عشية 26 مارس عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.