كانت أُمْ كِيْشُونَة الفارعة القوامْ، أُمْرأةً مُدبِّرة، ومحنّكة، ارتسمت على خدَّيْها الشلوخ التي اشتهر بها الشايقيّة ، وكانت أُمْاً لستةِ عيال، وتمتلكُ كلبةً وستة جراء. أما زوجها (عَلِيْ النَّيْ)، فقد كان إسمًا على مُسمى: بومٌ، وسلبيٌ، وبطيني. وضربت البلدَ مجاعةٌ كُبرَى، حتى أشتكى الأولاد من فرط الجوع، والعطش... ورّق (عَلِيْ النَّيْ) لحالهم، فشرَّق، وغرَّب وهو يبحث عن الطعام، ولكنه كان يعود، في كلِ مرَّة، بخفي حنين من الجهات الأربع. وأخيراً، لم تجد أُمْ كِيْشُونَة مناصاً من أن تتأبط (قُفَّتها )، وتسرح في الخلاء: يحدوها الأُمْل في إيجاد ما يقيم أود أولاده، وبعد أن أنهكها المسيرُ، وأعياها التعبُ، وجدت آثاراً لزريبةٍ كانت لأغنامٍ، وكانت الزريبة مَلأى بالبعر، فملأت (أم كيشونة) قفتها من ذلك البعر. وعندما عادت لبيتها، شدته كالبليلة، لتصبير الأولاد... ونامَ أولادُها، فعلاً، بعدَ انتظارٍ طويلٍ للقدر الفائر فوق النار، ما عدا إبنها الأصغر، فقد ظل يقظان، وساهراً وهو يلح على أُمْه أن تقدِّم له الطعام... وتحت إصراره، فتحت أُمْ كِيْشُونَة القدر لتريه البعر، وترتاح من ثرثرته، ولكن الله (من كرمو وجودو)، كان قد أحال البعر إلى بليلةٍ ذات رائحةٍ طيبةٍ، و مذاقٍ لذيذ. وأسرعت فأيقظت الأولاد، واحداً بعد الثاني، وأشرفت على تناولهم البليلة حتى شبعوا، وتخموا... وأصروا عَلِيْها أن توقظ أبيهم (عَلِيْ النَّيْ) ليأكل، ففعلت. وسارت الأمورُ على هذا المنوال، لأيامٍ، وأسابيع، ولكن جف المورد، فقد انتهى البعرُ في تلك الزريبة، وبحثت أم كيشونة عن مصدرٍ جديدٍ للطعام في الخلاء،، وسارت مسافات طويلة لتحقيق ذلك الهدف، وعندما يئست، وكادت أن تستسلم للفشل، لمحت، من بعيد، جبلاً أخضر اللون، وكانت كلما اقتربت منه تتيقن أن به نباتات البطيخ المثمرة، وفرحت وهي تملأ قفتها بطيخاً، وعادت به للأولاد، الذين مرحوا للبطيخ، وشققوه، وأكلوا منه، وطبخوا منه عصيدةً شهيّة. في تلك الأثناء كان (عَلِيْ النَّيْ) يُطارد المآتم ليأكل في موائدها... وأرسلت له أم كيشونة الأولاد، واحداً تلو الآخر، دون أن تُفصح له عن وجودِ البطيخ، فكان يطردهم بحجّة أنه في مجلس (رُجال)، فما كان منها إلا أن أرسلت الولد الأصغر ، ومسحت مؤخرته بعصيدة البطيخ، وقالت له: - لقِّي مؤخرتك (لعَلِيْ النَّيْ!)، ولكن أهرب منه، قبل أن يُهينك! وجرى (عَلِيْ النَّيْ) خلف صغيره محاولاً لعق مؤخرته المليئة بالعصيدة... وهزأته أُمْ كِيْشُونَة عند وصوله، ووصفته بالمَذهلل! وكانت (أُمْ كِيْشُونَة) تحضر، في كلِّ يوم، ما يكفي من بطيخ، للمرح، ولعمل العصيدة الحمراء، وتبرّع على النَّيْ بسؤالها: - أين تذهبين، ولم تتعبين؟ ورفضت أم كيشونة إخباره، خوفاً منه على كنز البطيخ. واشترى علي الني (ديكاً)، كان قد نجا من زحف المجاعة، من إمْرأةٍ عجوزٍ في الحي، وربطه في رجل (العنقريب) ليوقظه بصياحه في الصباح، وفي الفجر، خرجت (أُمْ كِيْشُونَة) للجبل كعادتها، وتبعها (عَلِيْ الني)، الذي أيقظه صياحُ الديك، دون أن تشعر هي به، لتفاجأ بوجوده عند الجبل. وصار هو يفقِّش، ويأكل في البطيخ، أما هي، فقد كانت تعزل الثمرات الناضجة، وتضعها في القفّة! وفي طريق العودة، تلكأ عَلِيْ النَّيْ بحجة (قضاءه الحاجة)، ولم تجد أُمْ كِيْشُونَة، رغم شكوكها، وحرصها، بُدّاً من أن تتركه خلفها، وتتقدّمه نحو البيت. وما أن استقرت في الدار، حتى سمعت (على النَّيْ) من الخارج يُنادي على إبنه الأكبر: - يا مُحُمّد! يا مُحُمّد... فأيقنت، على الفور، أن ثمةَ كارثةٌ قد وقعت (لعَلِيْ الني)، أو منه، فأمَرت إبنها البكر (محمد) أن يلحق بأبيه، ويأتيها بالخبر اليقين. وعاد محمدٌ يسأل، ويبحث عن أدواتٍ للحفر، فسألته (أُمْ كِيْشُونَة): - ما جدوى الحفر؟ ماذا لديكما لتدفناه؟ فقال لها محمد: - (لقد أحضر أبي نبتة البطيخ ليزرعها في البيت، إشفاقاً منه عليك، وحتى لا تتعبي كل صباح، وتذهبي هناك إلى الجبل في الفجراويّة ). وهنا أدركت (أُمْ كِيْشُونَة)، وعلى الفور، ما حاق ببطيختها من خراب، وحزنت حتى كادت أن تولول، ولكنها ما أن استعادت رباطة جأشها، حتى قرّرت الرحيل. ولكن، ماذا تفعل (أُمْ كِيْشُونَة) مع عَلِيْ النَّيْ؟ واتفقت مع أبنائها على أنها ستحملهم، ومعهم الكلبة وجرائها. وفي الصباح، حزمت عدتها في قفة، والجراء والكلبة في القفة الأخرى، وحملت أبناءها الستة فوق ظهرها، وغادرت، يتبعها من مسافة غير بعيدة: (عَلِيْ النَّيْ!)... وفي الطريق، كان (عَلِيْ الني) يتأوه، ويتجرس من أحماله، وكان كل ما تخلص من حمل حتى شالته عنه (أُمْ كِيْشُونَة)، وأنزلت من فوق ظهرها أحد الأولاد، حتى تخلص عَلِيْ الني من جميع ملابسه: العرَّاقي، والسِرْوَال، والحذاء، وصار عارياً كما ولدته أُمْه، ثم قال لها إنه تعب، وطلب من(أُمْ كِيْشُونَة) أن تحمله هو مكان لأولاد، فحملته، وأنزلت الأولاد ليسيروا إقروبي على أرجلهم، وبعد مسافة من السير المضني، وجد الأولاد حبّة قاعون (شمأُمْ)، وهموا بأكلها، وطلب عَلِيْ النَّيْ من أُمْ كِيْشُونَة إنزاله ليأكل، هو، القاعونة...ولما رفضت، عضها في ظهرها عضة مؤلمة، وتأوهت أم كيشونة على إثرها وأنزلته... وكعقوبة عن العضّة: رفضت حمله مجدداً... وحملت أبناءها الستة على ظهرها بعد أن كرّبتهم برباط! وفي أثناء المسير، وجدوا نملةً تحملُ حبّة عيش، وأقبل (عَلِيْ النَّيْ) على النملة يريد الاستئثار بحبة العيش التي تحملها، فاحتجت النملةُ، وصاحت بهم مترجيّة: - يا أخوانا! حبة العيش دي، أنا بفتِّش فيها لي ستة أيأُمْ، وأولادي حيموتوا من الجوع لو ما حصلتهم، لوخليتوها لي، بوريكم مكان مخزن العيش. فسألوها: - وأين هو مخزن العيش؟ - كان باريتوا دربي فستصلون إلى المخزون! وكان درب النملة يقود إلى بيت السَحَّارَة، فلما تبعوه وصلوا بيت السحارة، ودخلوا، فوجدوا قواديس العسل، وقساسيب التمر اليابس وأصناف من الغلال. أُمْا (أُمْ كِيْشُونَة)، فقد حفرت، على الفور، حفرةً أودعت فيها الكلبة، وجرائها، وأبناءها الستة، وأخذت من التمر ملوة، ومن العيش ملوة، وبعض العسل إلي داخل الحفرة. ولكن (عَلِيْ النَّيْ)، أصر أن يختبيء داخل قسيبة التمر ، وأخذ يقرمِش في التِّمور، قرمشةً متلهفة، وبصوتٍ مسموع! وكانت السحارة تقول، بصوتٍ مسموع أيضاً: - الفار الفي القسيبة، ده، يسمن لي عشاي! وجاعت، فعلاً، ذات يوم، ففتحت القسيبة، لتجد (على النَّيْ) متقوقعاً فوق شيطه ، وهو يرتعد من الخوف، فقالت له السَحَّارَة: - هنيئاً لي بك، أنت اليوم عشائي! ورد عَلِيْها (عَلِيْ النَّيْ): - إذا وريتك بمكان (أُمْ كِيْشُونَة) ووليداتها... بتخليني ؟ ولمّا أجابته بالإيجاب، أشار (عَلِيْ الني) إلى مكان الحفرة التي تختبئ فيها (أُمْ كِيْشُونَة) وأولادها، وحاولت (أُمْ كِيْشُونَة) أن تواجه السَحَّارَة، وتقاومها، ولكنها فشلت، وقالت لها السَحَّارَة: - أنت من تعديتِ على داري، ولن أقبل بأقل من العشاء بأحد الأولاد، في مساء كلّ يوم. وطبخت (أُمْ كِيْشُونَة) الجراء كلها، فعلاً، للساحرة، وعلقتها في أغصان الشجرة التي حددتها السَحَّارَة، بشكل يومي، حتى كملت الجراء... فطلبت الساحرةُ من أُمْ كِيْشُونَة أن تطبخ نفسها، فذبحت (أُمْ كِيْشُونَة) الكلبة، وطبختها، وعلقتها فوق غصن الشجرة. ثم عادت السَحَّارَة لتهدد (عَلِيْ النَّيْ) من جديد، بأنها ستتعشى به عاجلاً! وكانت (أُمْ كِيْشُونَة) بعد أن طبخت الكلبة للساحرة، قد حفرت حفرةً، داخل الحفرة الأولى، أودعت فيها أولادها، واختبأت فيها. أما علي الني فقد حضّر ماءً مغلياً، بعد أن طلبت منه الساحرة أن يطبخ نفسه، وبدأ في طبخ نفسه، فعلاً، ولكنه كان يويوي : - أحي...أحي ! يا أُمْ كِيْشُونَة ووليداتا، كيفن اتحملتوا النار؟ ولكن، خبأته أم كيشونة، هو الآخر، تحت إلحاح الأولاد، وبعد غياب (عَلِيْ الني)، أدركت السحارةُ أن أُمْ كِيْشُونَة متآمِرة، وأنها قد خدعتها، وقصّت أثره، فقادها الأثر إلى جُحر (أُمْ كِيْشُونَة)، فصاحت الساحرة: - الدَّايرلُو عصيدة بالروب، الدَّايرلُو عصيدة بالسمن... وكان (عَلِيْ النَّيْ) يستجيب لنداءات السحارة، وإغراءاتها، ويسأل أُمْ كِيْشُونَة: - أقولها أنا؟ ولكن (أُمْ كِيْشُونَة) كانت تلجمه، وتوعده بتلك العصائد، إلى أن غلبها، وفلت من سيطرتها ذات يومٍ، وصاح، ردّاً على نداء السحارة الوهمي: - وَيْ أنا...وَيْ أنا! وكانت (أُمْ كِيْشُونَة) قد صنعت حبلاً من صوف الجراء بعد ذبحها، ومن شعر الأولا، وأُمْرت (علي النَّيْ) أن يستدرج الساحرة، لتقترب من الحفرة، وما أن مدت رأسها حتى قأُمْوا بخنقها، وقتلها هي والأولاد، وتمددت هامدة في فوهة الجحر، ثم جرّوها للخارج. وحذّرت (أُمْ كِيْشُونَة) الأولاد من الإقتراب أو الوجود في المكان الذي سال فيه دم السحارة. وقأُمْت، من بقعة دم السحارة، بقرةٌ ذات ضروع، ومعها عجلين... وكانت أضرُعُ البقرة ممتلئةً، وتفيض باللبن، ورغم تحذيرات (أُمْ كِيْشُونَة) الصارمة، إلا أن (عَلِيْ النَّيْ) حاول أن يحلب البقرة، ولكنه، عندما انحنى ليحمل دلاء اللبن، ضَرَط ... وضحكت البقرةُ من ضراطه، فجرى عَلِيْ الني ليحتمى بأُمْ كِيْشُونَة، ولكنها كانت في تلك اللحظات قد قتلت، هي وأولادها، البقرة، والعجلين. وفي اليوم الثاني، قأُمْت في مكان البقرة شجرةُ قرعٍ ذات ثمار كبيرة، وحذرته (أُمْ كِيْشُونَة) مرة أخرى من الإقتراب من القرع أو لمسه، إلا أنه، برغمها، أحضر قرعتين كبيرتين، وهمَّ بتقطيعها، فتقافزت إحدى القرعات، وصاحت: - تََرْع! تَرَعْ... تعالُوا شوفُوا لعب القرع. وبادلتها رفيقتها الأهزوجة: - تََرْع! تَرَعْ... تعالُوا شوفُوا لعب القرع. وعَلِيْ الني، يضرِّط، ويشيِّط... ولكن، أسرعت (أُمْ كِيْشُونَة)، يعاونها أولادُها، بحرق شجرة القرع، ترب السحارة، وسليلتها، وذرّت رمادَها في الهواء. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.