ظل السودان منذ استقلاله وما قبله بقليل في حالة من الحرب الأهلية المستمرة بغض النظر عن نوع الحكومة التي تجلس على ككر الخرطوم، ولم تستطع جميع الحكومات أو الحركات المسلحة أن تحرز أي تقدم أو اختراق لهذا الملف الأهم - من وجهة نظري - لعدم وجود تصور محدد ومشترك لعملية السلام نفسها، وحصرها في قسمة السلطة والثروة!! مع التناسي والتجاهل والتغافل عن العوامل الاجتماعية، الثقافية، الإنسانية والوطنية المتضمنة في هذا السلام المنشود. وكانت فرق التفاوض من الجانبين تجلس إلى طاولة المفاوضات حاملة رؤية حدية مُتخيلة وليست وطنية على الإطلاق، فتخرج نتائج هذه المفاوضات باحتفاظ كل طرف بمكتسباته التي حققها سواء بقوة السلاح أو الانتخابات المنقوصة؛ مما ساعد على تباعد مكونات المجتمع السوداني وأدى إلى استقلال جزء كبير من الوطن - جراء هذه المكتسبات - وستتبعه أجزاء أخرى إن لم نستفد من أخطائنا السابقة وحاولنا تجنبها في مقبل الأيام. كان عدم التوصل إلى صيغة سلام عادلة وشاملة وذات توجه سوداني هو أهم أسباب فشل الحكومات التي وصلت إلى الحكم بعد انتفاضتي أكتوبر وأبريل على التوالي، وأخشى ما أخشاه هو تأثير هذه المسألة على حكومة الفترة الانتقالية الحالية - التي تمتد لفترة أطول من سابقتيها، وهذا الطول يشكل سلاحا ذو حدين آمل أن أعود فأكتب عنه مستقبلا - أو الحكومة المنتخبة التي تليها. إعطاء الترتيبات الأمنية الأولوية في مفاوضات السلام على حساب الترتيبات الإنسانية والاجتماعية يؤدي إلى تشكيل كانتونات مغلقة - تسميها حركات الكفاح المسلح "المناطق المحررة" وتطلق عليها الحكومة اسم "مناطق التمرد"!!- تُسير أمورها بأهداف غير مرتبطة عضويا بالأهداف الوطنية العليا - اتفاقية السلام مع حكومة مايو واتفاقية نيفاشا كمثال - منكفئة على ذواتها غير منفعلة أو فاعلة بالواقع الأشمل للوطن - نستطيع استثناء عبد الواحد محمد نور في الوقت الراهن - وكلما زاد انشغالها مناطقيا قلت مساهمتها في المنتوج الاجتماعي والثقافي والفكري القومي، مع اعترافنا بالتنوع والاختلاف إلا أنه اختلاف متجانس ومتآلف ومشارك وفاعل في الإطار العام السودان الذي يحتوي كل هذا الاختلافات في إطار الوحدة، فتزيد مساهمته فيه بمقدار انشغاله بالهم السوداني العام أولا ثم الهم المناطقي الخاص ثانيا، وتقل هذه المساهمة بعكس الترتيب. وعلى منظمات المجتمع المدني تحمل مسئوليتها بتمتين هذه الروابط وإبرازها - إن هي ابتعدت عن الاستوزار والوظائف الحكومية - واستغلال الزخم المجتمعي الذي تحتويه شعارات الثورة المُتقدة في القلوب "يا عسكري ومغرور .. كل البلد دارفور". وعلى الطرف الحكومي المًفاوض الابتعاد عن النظر على أن سقوط نظام الانقاذ هو غنيمة حرب تُقسم أخماسا على المنتصرين، تجاذبوها حتى اُبتذلت وعافها كل ذو قلب سليم، إن خيار تشكيل الحكومة من التكنوقراط رغم مساوئه المتعددة؛ إلا أنه يبقى أفضل من استيلاء الكتل السياسية عليها، مما لا يفتح مجالا لبناء الثقة بين طرفي التفاوض، فإذا لم تلتزم الأحزاب السياسية بقاعدة أساسية من النظام الديمقراطي "عدم تولي منصب سياسي في الحكومة دون انتخاب" كيف تطلب مني أنا الذي أحمل السلاح الالتزام بقواعدك الديمقراطية المخروقة من قبلك؟!! على طرفي التفاوض تغيير أهدافهم التفاوضية المرحلية والاتفاق على هدف استراتيجي موحد على أساسه يتم التفاوض "إقامة نظام ديمقراطي ليبرالي مستدام في السودان" مُقسم إلى أهداف مرحلية تؤدي إلى تحقيقه، وهو عمل جبار يحتاج إلى إعمال العقل وإجهاد النفس ونكران الذات واستشراف المستقبل والتعلم من الماضي، وإلا فإننا سنظل ندور في نفس الدائرة الشريرة (انتخابات - انقلابات - انتقاليات) مع اقتطاع جزء من أرضنا الغالية في كل دورة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.